لماذا الإمام القائم غائبا عن الأنظار؟
ومن التساؤلات المطروحة في القضية المهدوية هو لماذا الإمام القائم غائبا عن الأنظار، لماذا لا يكون حاضرا بين الناس؟ كما كان اباؤه من قبله مع سائر الناس.
ولا شك ان الامام الحجة ) عليه السلام ( هو مكلف من قبل السماء في جميع تحركاته وتصرفاته، ولا يتصرف من تلقاء نفسه وخاصة في المسائل الجوهرية والمصيرية وتخص الامة ، وغيبته عن انظار الناس ليست مسالة هينة وبسيطة على قلب الإمام ولا على قلب الائمة من آبائه الطاهرين ومواليه .
وان من يستقرئ حياة الائمة الطاهرين سيلاحظ كيف انهم كانوا يتألمون ويحزنون ويبكون حينما يأتي ذكر الامام المهدي (عليه السلام ) وما سيمر على الإمام من شدائد ومحن ، وغيبته الطويلة عن الأنظار، فعن الهروي، قال سمعت دعبل بن علي الخزاعي يقول أنشدت مولاي علي بن موسى الرضا عليهما السلام قصيدتي التي أولها:
مدارس آيات خلت من تلاوة * ومنزل وحي مقفر العرصات فلما انتهيت إلى قولي:
خروج إمام لا محالة خارج * يقوم على اسم الله والبركات يميز فينا كل حق وباطل * ويجزي على النعماء والنقمات.
بكى الرضا عليه السلام بكاء شديدا ثم رفع رأسه إلي فقال لي: يا خزاعي نطق روح القدس على لسانك بهذين البيتين فهل تدري من هذا الامام؟ ومتى يقوم؟ فقلت:
لا يا مولاي إلا أني سمعت بخروج إمام منكم يطهر الأرض من الفساد ويملأها عدلا كما ملئت جورا فقال: يا دعبل الإمام بعدي محمد ابني وبعد محمد ابنه علي وبعد علي ابنه الحسن وبعد الحسن ابنه الحجة القائم المنتظر في غيبته المطاع في ظهوره لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج فيملاها عدلا كما ملئت جورا وأما متى؟ فأخبار عن الوقت ولقد حدثني أبي، عن أبيه عن آبائه، عن علي عليهم السلام أن النبي صلى الله عليه وآله قيل له: يا رسول الله متى يخرج القائم من ذريتك؟ فقال: مثله مثل الساعة لا يجلبها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض لا يأتيكم إلا بغتة. ) [1]
عن الصقر بن أبي دلف، قال: سمعت أبا جعفر محمّد بن علي الرضا عليهما السلام يقول: (إنَّ الإمام بعدي ابني علي، أمره أمري، وقوله قولي، وطاعته طاعتي، والإمام بعده ابنه الحسن، أمره أمر أبيه، وقوله قول أبيه، وطاعته طاعة أبيه)، ثمّ سكت. فقلت له: يا ابن رسول الله فمن الإمام بعد الحسن؟ فبكى عليه السلام بكاءً شديداً، ثمّ قال: (إنَّ من بعد الحسن ابنه القائم بالحقّ المنتظر)(2).
وهنالك مواقف عديدة على هذا المنوال من أئمة الهداة تجاه القائم، ولولا خشية الإسهاب والخروج عن المطلب لذكرنا الكثير منها.
فاذاً فالإمام مأمور بالامتثال لأمر السماء، في غيبته عن الأنظار، ويمكن ان نجيب عن السؤال بعدة وجوه..
الوجه الأول: ان السبب الرئيسي الذي جعل الامام في محل اختفاء عن الأنظار هو الخوف من القتل، ومن يستقرئ حياة آبائه الطاهرين (عليهم السلام)سيلاحظ كيف ان الدولة الاموية والعباسية قامت باغتيالهم بالسيف والسم.
قال الشيخ الطوسي : ( لا علة تمنع من ظهور المهدي إلاّ خوفه على نفسه من القتل ، لأنه لو كان غير ذلك لما ساغ له الاستتار. [3]
وخوفه من القتل ليس لشغفه بالدنيا ومتاعها، او لخلة في نفسه -حاشاه -من أي خلة، فهو من بيت، القتل لهم عادة وكرامتهم من الله الشهادة.
انما ليحافظ على نفسه حتى ينجز الله تعالى على يديه وعده بالنصر والظفر على أعدائه وإقامة الدولة العادلة في العالم.
فان الحفاظ على النفس امر واجب شرعي ،ولزوم الاخذ بالأسباب الطبيعية، حتى ولو كان الفرد نبيا كخروج نبي الله موسى ) عليه السلام ( من المدينة خائفا من القتل ، وهذا الخوف والحذر لأجل الحفاظ على نفسه حتى ينقذ بني إسرائيل من فرعون قال تعالى عنه ) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ۖ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ( سورة القصص آية21
وكذلك خروج نبينا (صلى الله عليه واله ) من مكة متخفيا من فراعنة قريش ،وذهابه الى الغار لينجو منهم ، وغير ذلك من الاخذ بالأسباب الطبيعية حفاظا على النفس لأجل هداية الامة ، وليس خوفا من الموت ،وتعلقا بالحياة الزائلة.»
روي عن سعيد بن جبير، قال: «سمعت سيّد العابدين علي بن الحسين (عليهما السلام) يقول: في القائم منّا سنن من الأنبياء، سنّة من أبينا آدم (عليه السلام)، وسنّة من نوح، وسنّة من إبراهيم، وسنّة من موسى، وسنّة من عيسى، وسنّة من أيوب، وسنّة من محمّد صلوات الله عليهم.
فأمّا من آدم ونوح فطول العمر، وأمّا من إبراهيم فخفاء الولادة واعتزال الناس، وأمّا من موسى فالخوف والغَيبة، وأمّا من عيسى فاختلاف الناس فيه، وأمّا من أيوب فالفرج بعد البلوى، وأمّا من محمّد (صلى الله عليه وآله) فالخروج بالسيف. ) [4]
وعن زرارة، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: للغلام غيبة قبل قيامه، قلت: ولم؟ قال: يخاف على نفسه الذبح.(5)
الوجه الثاني: فقد ورد عن اهل البيت ( عليهم السلام) ان وجه الحكمة من غيبة الامام المهدي ( عجل الله فرجه) مخفي ومجهول بإرادة الله تعالى فقد روي عن عبد الله بن الفضل الهاشمي، قال: سمعت الصادق جعفر بن محمّد صلوات الله عليهما يقول: «إنّ لصاحب هذا الأمر غيبة لابدّ منها، يرتاب فيها كلّ مبطل، فقلت: ولم جُعلت فداك؟ قال: لأمر لم يُؤذن لنا في كشفه لكم ..
قلت: فما وجه الحكمة في غيبته؟ قال: وجه الحكمة في غيبته وجه الحكمة في غيبات مَن تقدّمه من حجج الله تعالى ذكره، إنّ وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف إلّا بعد ظهوره، كما لم ينكشف وجه الحكمة فيما أتاه الخضر (عليه السلام) من خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار لموسى (عليه السلام) إلى وقت افتراقهما.
يا ابن الفضل: إنّ هذا الأمر أمر من أمر الله تعالى، وسرّ من سرّ الله، وغيب من غيب الله، ومتى علمنا أنّه عزّ وجل حكيم صدّقنا بأنّ أفعاله كلّها حكمة، وإن كان وجهها غير منكشف. ) [6]
الوجه الثالث: ومن وجه الحكمة من غيبة الإمام هو لتمحيص الناس وامتحانهم حتى يتميز المؤمن عن الشاك والمرتاب.
قال الصدوق: حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضي الله عنه قال: حدثنا محمد ابن الحسن الصفار، عن أحمد بن الحسين، عن عثمان عيسى، عن خالد بن نجيح، عن زرارة بن أعين قال: سمعت الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام يقول: إن للغلام غيبة قبل أن يقوم، قلت: ولم ذاك جعلت فداك؟ فقال: يخاف - وأشار بيده إلى بطنه وعنقه - ثم قال عليه السلام: وهو المنتظر الذي يشك الناس في ولادته فمنهم من يقول: إذا مات أبوه مات، ولا عقب له. ومنهم من يقول: قد ولد قبل وفاة أبيه بسنتين. لان الله عز وجل يحب أن يمتحن خلقه فعند ذلك يرتاب المبطلون. ) [7]
والرواية ذكرت الخوف والامتحان.
وعن عبد الرحمن بن سيابة، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: (كيف أنتم إذا بقيتم بلا إمام هدى ولا علم (يُرى) يتبرأ بعضكم من بعض، فعند ذلك تميّزون وتمحّصون وتغربلون).(8)
وعن مهزم بن أبي بردة الأسلمي، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: (والله لتكسّرنّ تكسّر الزجاج وإنّ الزجاج ليعود فيعاد، والله لتكسّرنّ تكسّر الفخار فإنّ الفخار ليتكسر فلا يعود كما كان، والله لتغربلنّ، والله لتميزنّ، والله لتمحصنّ، حتى لا يبقى منكم الاّ الأقل، وصعّر كفّه). [9]
عن المفضل بن عمر الجعفي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: إياكم والتنويه أما والله ليغيبن إمامكم سنينا من دهركم وليمحص حتى يقال مات أو هلك بأي واد سلك.(10).
الوجه الرابع: ان الحكمة من غيبته حتى لا تكون في عنقه بيعة للطغاة من حكام الجور فعن الامام الرضا عليه السلام قال: «كأنّي بالشيعة عند فقدهم الثالثَ مِن ولدي يطلبون المرعى فلا يجدونه»، قيل: ولِمَ ذلك يا ابنَ رسول الله ؟ قال: « لأنّ إمامهم يغيب عنهم »، قيل: ولِمَ ؟ قال: « لئلاّ يكون في عنقه لأحدٍ بيعةٌ إذا قام بالسيف .(11).
1- بحار الانوار ج 51 ص 154
2- الغيبة للشيخ الطوسي: 199).
3- بحار الانوار ج 51 ص 30
4- كمال الدين وتمام النعمة ج 1 ص 350
5- بحار الانوار ج 52ص 97
6- بحار الانوار ج 52 ص 91
7- كمال الدين ج 1ص 374
8- المصدر السابق: ج 1 ص376
9- الغيبة النعماني ص 190
10- بحار الانوار ج 52 ص 281
11- بحار الانوار ج 51 ص 151
تعليقات