البخل: هو الإمساك عن البذل والإنفاق وهو أعم من الإنفاق العيني فعن أمير المؤمنين عليه السلام (ما عقد إيمانه من بخل بإحسانه))1(فالبخل بالإحسان يشمل البخيل بماله وعلمه وجاهه وغير ذلك كما سيأتي ذكره ان شاء الله تعالى .
والبخل من الامراض القلبية ومن أقبحها خُلُقا وهذا الداء يخالف روح الايمان، ويدل على الانانية وحب الذات وعدم المبالاة بالفقراء والمساكين وذوي الحاجة، وهذه العاهة ايضا لا تتفق مع روح الاسلام الذي يدعو إلى الترابط والتواصل والتعاون ويبغض الطمع والأنانية وحب الذات روي عن الإمام الرضا (عليه السلام): إياكم والبخل فإنها عاهة لا تكون في حر ولا مؤمن، إنها خلاف الإيمان.)2
ان سلوك الإنسان المسلم واخلاقه ترجع وفق تفاعله وتعاطيه مع الإيمان بعالم الغيب، والانصياع والالتزام بتعاليم السماء، ومعارفه الحقة، واندماجه بأحكامه العظيمة.
فعلى سبيل المثال قد يرد طالب حاجة الى شخصين أحدهما ينظر الى حاجة الفقير والمحتاج بعين البصيرة، فيعد، حاجة المحتاج من الارزاق واللطائف الالهية التي ساقها الله تعالى اليه، وان التفريط بها هو تفريط برزقه وزاده الأخروي، فما أن يطرق المحتاج بابه او يسمع عنها حتى يسارع في قضائها مبتهجا مسرورا لعلمه بعظيم ما سيق له فعن الإمام علي عليه السلام: إن المسكين رسول الله فمن أعطاه فقد أعطى الله ومن منعه فقد منع الله سبحانه.)3
وعن الإمام الحسين بن علي عليهما السلام: اعلموا إن حوائج الناس إليكم من نعم الله عليكم، فلا تّملوا النعم فتتحول إلى غيركم.)4
اذاً فعملية الاندماج بين الإيمان بعالم الغيب والعمل الصالح امر ضروري حتى تثمر بنتائج عظيمة وهي المسارعة في العمل والسعي، وانتهاز الفرص قبل فواتها، اما الاخر فهو يتهرب وعذره حتى إبطيه كما يقال لدفع حاجة المحتاج.
وهذا التعاطي السلبي ينّم ان عملية الاندماج ضعيفة او كادت تكون معدومة مع علمه المسبق بالثواب العظيم ولكن قلبه لم يتفاعل ولم يندمج مع علمه، ولذا نرى التفاوت الملحوظ بين الناس في العبادات والمعاملات بسبب تعاطيهم الإيماني بالغيب بالإيجاب أو السلب واندماجهم الفعلي بتعاليم السماء من عدمه.
وقد اثنى الله تعالى على الطائفة التي تؤمن بالغيب وتتفاعل معه تفاعلا إيجابيا قال تعالى (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ .)5
إذا فالقلب قد يتمرض ويتأثر بآفة البخل لضعف عملية الاندماج القلبي بعالم الغيب وانعقاده عليه .
وإن احدى الأمراض الخطيرة التي ساهمت بشكل فعّال في تمرض القلب بداء البخل والحرص هو سوء الظن بالله تعالى، فلو كان قلب العبد معقوداً بحسن الظن بربه وأنه تعالى سابغ النعم وان ما عنده من مواهب ونِعم إنما هي بتخويل وتفويض منه قال تعالى (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ .) 6
وأنه تعالى قد أمره بالإنفاق ووعده ان يرّدها عليه أضعافا كثيرة قال سبحانه (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً. )7
فان هذا المستوى من الاندماج المعرفي والقلبي يتكفل بجعل الحصانة على القلب المؤمن بحيث يجعله لا يخشى الفقر والفاقة ويمنعه من الحرص والبخل.
ولكن لو تمّرض القلب بداء سوء الظن بالله تعالى فهذا المستوى من الارتباط والاندماج السلبي يجعل الفرد بخيلا حريصا على ماله خشية الفقر، وفيه قد وقع فعن الإمام علي (عليه السلام) : البخل بالموجود سوء الظن بالمعبود ))8وعن الامام الصادق :(عليه السلام): حسب البخيل من بخله سوء الظن بربه، من أيقن بالخلف جاد بالعطية.)9 وعنه عليه السلام :الجبن والحرص والبخل غرائز سوء يجمعها سوء الظن بالله سبحانه.)10
وأن البخل له صورة باطنية قبيحة مشوهة ولو رآها شخص لأعرض وانصرف عنها يقول امير المؤمنين سلام الله عليه: لو رأيتم البخل رجلا لرأيتموه شخصا مشوها. )11( وقال عليه السلام : لو رأيتم البخل رجلا لرأيتموه مشّوها يغض عنه كل بصر وينصرف عنه كل قلب .)12
وقد يتبادر الى أذهان البعض أن لفظة البخل حينما تُسمع يُفهم منها أن البخل مقتصر مورده بالمال دون سواه ولكن ان لهذه اللفظة معنى واسع فلرّبما شخص لا يملك مالا ويعد من الفقراء والمساكين ولكن يُسمى بخيلا في معنى وعنوان اخر وهناك مصاديق كثيرة لهذا العنوان فمثلا ان زكاة العلم نشره وتعليمه لأهله ولكن قد يتخاذل شخص عن وظيفته الشرعية والأخلاقية المفروضة عليه ويبخل عن نشره لا لعلة سوى ابتغاء انحصار ذلك العلم فيه دون سواه أو لسبب آخر لا يعذر فيه أمام الله تعالى فيصدق عليه عنوان البخيل لذا نلاحظ ان رسول الله صلى الله عليه وآله عمّم مفهوم البخل بقوله : (صلى الله عليه وآله): أبخل الناس من بخل بما افترض الله عليه .13
وان نشر العلم أمر مفترض على أهل العلم وورد النهي عن كتمانه عن أهله فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): من كتم علما مما ينفع الله به - في أمر الناس - أمر الدين، ألجمه الله يوم القيامة بلجام من النار .)14
ومن مصاديق البخل ايضا هو البخل بالسلام عن علي عليه السلام : ان أبخل الناس من بخل بالسلام .)15( ومن مصاديق البخل قول رسول الله (صلى الله عليه وآله): البخيل حقا من ذكرت عنده فلم يصل علي .)16
البخيل مذموم :
إن الإنسان بفطرته وطبعه ينأى بنفسه عن أي مورد تكون نفسه عرضة للمهانة والذم من قِبِل الناس، والمهانة والمذلة من النواقص والإنسان مفطور على حب الكمال وينفر عن النواقص والانحطاط.
ولكن حينما يتخلق بمساوئ الاخلاق فقد عرّض فطرته السليمة وقلبه النقي الى التلوث بشتى الأمراض القلبية المخالفة لفطرته، وعرّض نفسه الكريمة الى الصغار عند الناس.
والبخل هو أحد الأسباب الذي يتسبب في تعريض مكانة وسمعة الإنسان إلى الذم و المهانة والذلة عند الله تعالى وعند الناس وناهيك عن العقاب الاخروي فمن كلام أمير المؤمنين عليه السلام في بيان خصائص البخيل يقول : البخيل أبدا ذليل))17( وقال سلام الله عليه : البخيل ذليل بين أعزته.)18( وقال : البخل يكسب العار ويدخل النار .)19
اذا فان هذا المرض الخبيث يكشف عن صورة سلبية وذميمة لدى البخيل من الانانية وحب الذات وعدم المبالاة بالغير وضعف الايمان والانطوائية هربا من اعانة الغير .
فبعد الوقوف على هذه المساوئ والعيوب والنتائج الخطيرة فعلى المؤمن اللبيب مغالبة هواه بالسير وفق الفطرة النقية والالتزام بتعاليم الاسلام الحنيف ولا يدع لنفسه لأن تكون مطية لوسواس الشيطان اللعين يقول تعالى محذرا من اتباع الشيطان قال تعالى (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ .)20
إنما الفقر الذي يجب اخذ الحذر منه وخوف الوقوع فيه هو الفقر من قلّة الزاد ليوم المعاد من الأعمال الصالحة ليدفع عن نفسه أهوال يوم القيامة وعقباته قال تعالى (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ) )21وقال تعالى (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ .)22
ذلك اليوم هو يوم عروض الكنوز والذخائر ولكنها كنوز الاعمال الصالحة والملكات الفاضلة، فشتان بين شخص يكنز الأموال لدنياه وشخص يكنز الأعمال الصالحة لآخرته.
ومن كلام النبي صلى الله عليه وآله مع أصحابه قال: .. ما الصعلوك فيكم ؟ قالوا : الرجل الذي لا مال له ، فقال : بل الصعلوك حق الصعلوك من لم يقدم من ماله شيئا يحتسبه عند الله وإن كان كثيرا بعده ..الخ وعن الإمام الصادق (عليه السلام) للحسين بن عثمان : أتدري ما الصعلوك المختال ؟ قال الحسين بن عثمان : فقلنا : القليل المال ؟ قال : لا ، هو الذي لا يتقرب إلى الله عز وجل بشيء . )1( .23
1 غرر الحكم ج 1 ص 2922
2 ميزان الحكمة ج1 ص ٢32
3 غرر الحكم ج1 ص 380
4 بحار الانوار ج 75 ص 127
5 سورة البقرة اية ٤
6 الانعام اية 94
7 البقرة اية 245
8 ميزان الحكمة ج 1 ص 323
9 نفس المصدر ص 233
10 ميزان الحكمة ج 2 ص 1786
11 غرر الحكم ج 1 ص 293
12 عيون الحكم والمواعظ ج 1 ص 416
-13 ميزان الحكمة ج 1 ص 234
14 العلم والحكم في الكتاب والسنة ص 307
15 ميزان الحكمة ج 1 ص 234
16 بحار الانوار ج 91 ص 55
17 عرر الحكم ج 1 ص 292
18 نفس المصدر
19 نفس المصدر
20 البقرة اية 268
21 البلد اية 16
22 البقرة اية 197
23 ميزان الحكمة ج 8 ص 98
تعليقات