ان الصمت له فوائد جمة ومباحثه كثيرة ولكن نتناول ما يرتبط ويتناسب مع موضوعنا وهو القلب حيث تُعد فضيلة الصمت من الملكات المباركة والعظيمة على العبد حيث تفيض الانارةَ والسكينةَ والهدوء والراحةَ على القلب والفكر ، وصمّامُ امان لكثير من آفات الذنوب فضلا عن اجلاب الهيبة والوقار والسلامة والستر ودليل الحكمة فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا رأيتم المؤمن صموتا فادنوا منه فإنه يلقي الحكمة 1. وعن علي (عليه السلام): وأكثر صمتك يتوفر فكرك، ويستنر قلبك، ويسلم الناس من يدك. (2) وعنه (عليه السلام): الصمت يكسيك الوقار ويكفيك مؤنة الاعتذار . 3
وضده الكلام وآلته اللسان وهو كغيره من النعم المفاضة على العباد بل يُعدّ اللسان من أشرف جوارح الانسان ، وان أول مفردة انُزلت من الفيض الاقدس على قلب الخاتم (صلى الله عليه وآله) هو قوله تعالى ( اقرأ) أي أن يقرأ الآيات الكريمة بلسانه الشريف على مسامع الناس ويدعوهم إلى الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر وفي نفس الوقت يُعد اللسان من اخطر الجوارح فتكاً ، وقد وصفه أمير المؤمنين عليه السلام بالجموح أي المتمرد والمستعصي على صاحبه حيث قال سلام الله عليه : ليخزن الرجل لسانه ، فإن هذا اللسان جموح بصاحبه ،والله ما أرى عبدا يتقي تقوى تنفعه حتى يخزن لسانه).4
ولو خُليَ الكلام من النفع فسجن اللسان اولى من إطلاق العنان له فعنه عليه السلام : ما من شيء أحق بطول السجن من اللسان .5
وثمّة قصّة معروفة عن لقمان،: وهي أنّ مولاه دعاه ـ يوم كان عبداً ـ فقال: اذبح شاة، فأتني بأطيب مضغتين منها، فذبح شاة، وأتاه بالقلب واللسان وبعد عدّة أيّام أمره أن يذبح شاة ، ويأتيه بأخبث أعضائها، فذبح شاة وأتاه بالقلب واللسان، فتعجّب وسأله عن ذلك فقال: إنّ القلب واللسان إذا طهّرا فهما أطيب من كلّ شيء، وإذا خبثا كانا أخبث من كلّ شيء .6
اذاً فمن العوارض سالبة لسلامة القلب هو فضول الكلام ، وان عملية لجم اللسان فيما لا فائدة منه تُعّد من اشد رياضات صعوبة ، وان الظفر في مطاوعة اللسان وجعله منقادا تحت امرة صاحبه يحتاج الى مراقبة مستمرة وجهد وجهاد وصبر وثبات ، ولذا ينقل عن احد علمائنا السالكين انه كان يضع حصاة تحت لسانه بغية لجم لسانه والحد من آفة فضول الكلام.
ومن كلام لإمامنا الصادق عليه السلام مع محمد بن النعمان أنه قال : .. إن من كان قبلكم كانوا يتعلمون الصمت وأنتم تتعلمون الكلام ، كان أحدهم إذا أراد التعبّد يتعلم الصمت قبل ذلك بعشر سنين فإن كان يحسنه ويصبر عليه تعبد وإلا قال : ما أنا لما أروم بأهل ، إنما ينجو من أطال الصمت عن الفحشاء ...الخ . 7
ودخل لقمان على داود وهو يسرد الدرع... فأراد أن يسأله فأدركته الحكمة فسكت، فلما أتمها لبسها وقال: نعم لبوس الحرب أنت، فقال: الصمت حكمة وقليل فاعله، فقال له داود (عليه السلام): بحق ما سميت حكيما . 8
ومن المؤسف أنك تجد انُاسا همهم التسامر وقضاء الأوقات مع هذا وذاك وإتلاف اعمارهم باللهو واللغو وفي حديث لا خير فيه ولا نفع .
وان المجالس التي تخلو من اهل الورع والدين نادر ما تسلم من الوقوع في مصائد الشيطان بتناول أعراض المؤمنين بالسوء ، بحيث اصبحت المجالس الكثير منها ـ
وللأسف ـ مرتعا للهو والشغل الشاغل لضّعاف النفوس وان المجلس في نظر هؤلاء يعد تافها و هزيلا إذا خُليَ من اللغو واللهو والفكاهة والمزاح والبغي على حرمة المؤمن .
نعم هذا هو واقع الحال ولا مفر من قول الحقيقة فإن الكثير من المجالس هكذا حالها.
وان انعقاد المجالس بهذه الكيفية يعد عقوقا جليا لأهل البيت عليهم السلام وخلافا لما يرجونه من مواليهم واتباعهم وان هذه المجالس لتدخل الاسى والحزن عليهم فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال لفضيل: تجلسون وتحدثون ؟ قال: نعم جعلت فداك، قال: إن تلك المجالس أحبها فأحيوا أمرنا يا فضيل ، فرحم الله من أحيا أمرنا، يا فضيل ! من ذكرنا أو ذكرنا عنده فخرج من عينه مثل جناح الذباب غفر الله له ذنوبه ولو كان أكثر من زبد البحر .9
اذاً فالنتائج المتوقعة من هذا الداء تنعكس سلبا على نقاوة القلب وصفاءه ، فإن فضول الكلام وكثرته بلا مبرر ومع خلوه من النفع قد يؤول الى عواقب وخيمة ونتائج سلبية في تمّرض القلب وقسوته وقد اشار امير المؤمنين عليه السلام إلى هذه
النكتة بقوله:( مَنْ كَثُرَ كَلاَمُهُ كَثُرَ خَطَؤُهُ ومَنْ كَثُرَ خَطَؤُهُ قَلَّ حَيَاؤُهُ وَمَنْ قَلَّ حَيَاؤُهُ قَلَّ وَرَعُهُ ومَنْ قَلَّ وَرَعُهُ مَاتَ قَلْبُهُ وَمَنْ مَاتَ قَلْبُهُ دَخَلَ اَلنَّارَ ) 10
ولا ريب أن الإمام (سلام الله عليه) في مقام ذم كثرة الكلام السلبي الذي لا خير فيه وإلا فكلام الحق لا اشكال ولا ضرر فيه وإن كُثر ولذا يحكي القرآن الكريم عن نبي الله نوح عليه السلام مع قومه قال تعالى (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا ) 11
بعد هذه الاطلالة السريعة على ضرورة التحلي بفضيلة الصمت والنأي عن فضول الكلام من أجل الحفاظ على نقاوة القلب وإعداد الأرض خصبة لنزول البركات ولأجل أن يبقى ( ليس في الدار غيره ديّار) .
يتحتم على البصير أن يتهم بإصلاح القلب ويتم ذلك بصيانته عن الغفلة واللغو وفضول الكلام وإلا كانت النتائج لا تحمد عقباها على القلب .
فان مرض القلب لا يقاس بمرض البدن للأمراض البدنية إذا انعدم علاجها لا تضر على عاقبة المؤمن ما دام القلب طاهرا سليما من المعاصي والآثام بخلاف مرض القلب فهو المحور وعليه المعّول والنجاة فإذا قسا قلب العبد وتحّجر كانت الدنيا هي امُّه فيرضع من متعها و لذائذها حتى تعزفه وتبعده عن الآخرة قال تعالى(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا).12
ومن المؤسف حقا أننا إذا ما ابتلينا بعلة في بدننا نسعى جاهدين بكل ما اُوتينا في معالجة ما ألمّ بنا من المرض ولكن ترانا نكسل ونهمل في إصلاح قلوبنا التي اصُيبت بشتى الأمراض المعنوية من الحسد والحقد والنفاق وسوء الظن.. الخ
فعن الإمام الصادق (عليه السلام) - في وصيته لابن جندب -: اجعل نفسك عدوا تجاهده، وعارية تردها، فإنك قد جعلت طبيب نفسك، وعرفت آية الصحة، وبين لك الداء، ودللت على الدواء، فانظر قيامك على نفسك . 13
فالمريض يُسّخر بدنه ويجعله تحت سلطة الطبيب لإزالة المرض ، ولكن الأمراض القلبية هي مجعولة تحت سلطة الانسان نفسه ، فما عليه إلا يشحذ الهمة ويشّمر ساعد الجد في استئصال الأورام الخبيثة من قلبه آخذ بإرشادات الحكماء وأطباء القلوب محمد واهل بيته الاطهار (صلى الله عليهم أجمعين) فقد وصف أمير المؤمنين عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وآله أنه ( طَبِيبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ قَدْ أَحْكَمَ مَرَاهِمَهُ وَأَحْمَى مَوَاسِمَهُ يَضَعُ ذَلِكَ حَيْثُ اَلْحَاجَةُ إِلَيْهِ مِنْ قُلُوبٍ عُمْيٍ وَ آذَانٍ صُمٍّ وَ أَلْسِنَةٍ بُكْمٍ مُتَّبِعٌ بِدَوَائِهِ مَوَاضِعَ اَلْغَفْلَةِ وَ مَوَاطِنَ اَلْحَيْرَةِ 14 ).
أن إرادة المؤمن إذا ما استحكمت على جارحة اللسان سينعم القلب بالهدوء والسكينة والراحة ويزاد الفكر بصيرة وتنورا وسيسد على نفسه الكثير من مداخل الشيطان ومنافذ الذنوب : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : رحم الله عبداً تكلم فغنم ، أو سكت فسلم ، إنّ اللسان أملك شيء للإنسان ، ألا وإن كلام العبد كله عليه ، إلا ذكر الله تعالى ، أو أمر بمعروف ، أو نهى عن منكر، أو إصلاح بين مؤمنين » فقال له معاذ بن جبل : يا رسول الله ، أنؤاخذ بما نتكلم به ؟ فقال : وهل تكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم !فمن أراد السلامة فليحفظ ما جرى به لسانه، ويحرس ما انطوى عليه جنانه ، ويحسن عمله ، وليقصر أمله » 15 وعن علي (عليه السلام) - لقنبر وقد رام أن يشتم شاتمه : مهلا يا قنبر ! دع شاتمك مهانا ترض الرحمن وتسخط الشيطان وتعاقب عدوك ، فو الذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما أرضى المؤمن ربه بمثل الحلم ، ولا أسخط الشيطان بمثل الصمت ، ولا عوقب الأحمق بمثل السكوت عنه.(16) وعنه (عليه السلام): إن لسان ابن آدم يشرف كل يوم على جوارحه فيقول: كيف أصبحتم ؟ فيقولون: بخير إن تركتنا، ويقولون: الله الله فينا ! ويناشدونه ويقولون : إنما نثاب بك ونعاقب بك .17
1- تحف العقول ص 93
2-ميزان الحكمة ص 523
3- غرر الحكم ص 139
4- ميزان الحكمة ص 107
5-نفس المصدر
6- تفسير الامثل ج 13 ص 42
7- ميزان الحكمة ج 5 ص 290
8- وسائل الشيعة ج 12 ص 1
9ميزان الحكمة ج 2 ص 220
10- نهج البلاغة ج 4 ص 57
11- سورة نوح آية 5
12- سورة البقرة آية 10
13- ميزان الحكمة 3
14- نهج البلاغة ج 1 ص 182
15- الاعلام الدين في صفات المؤمنين ص 20
16- الأمالي للمفيد ص 71
17- الاختصاص ص 7
تعليقات