التخطي إلى المحتوى الرئيسي

إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ

المواقف البطولية والاخلاقية من النهضة الحسينية

 


المقدمة

الْحَمْدُ للهِ الاوَّلِ بِلا أَوَّل كَانَ قَبْلَهُ، والاخِر بِلاَ آخِر يَكُونُ بَعْدَهُ. الَّذِي قَصُرَتْ عَنْ رُؤْيَتِهِ أَبْصَارُ النَّاظِرِينَ، وعَجَزَتْ عَنْ نَعْتِهِ أَوهامُ اَلْوَاصِفِينَ، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد واله الطيبين الطاهرين.

وبعد: إن من يستقرئ واقعة الطف الخالدة استقراءً تاماً، ويغور نظره الثاقب فيما اكتنفته من إرهاصات وتحديات مؤلمة، ويسبر فكره الحر في أحداثها ومجرياتها وما اتسمت بها من مواقف بطولية شتّى، ومكارم أخلاقية جمّة، من الثبات والوفاء، والتفاني والفداء، سيجدها مدرسة نموذجية في العطاء، ومعلما حياً، ونهجاً قويماً، للأحرار الذين يسعون لنشر راية الإصلاح.

ولا نبالغ ان قلنا ان النهضة الحسينية هي نهضة استثنائية في تاريخ البشري لما فيها من مقومات ودواعي إنسانية واخلاقية وشرعية وتضحيات قلّ نظيرها في التاريخ البشري تجعلها في قمّة الصدارة والريادة.

فقد كانوا فتية في بصائرهم وعزائمهم، طلّقوا الدُنيا وجمالها، وغدوا يتسابقون الى المنية دفاعاً عن الدين، وطلباً للإصلاح، ورفضاً للفساد، وحباً للقاء الله، ورغبةً فيما عند الله من جزيل العطاء في الكرامة الأبدية مع علمهم ان الموت نازل بهم لا محالة. 

 فانعقدت على الشهادة عزائمهم، واتفقت في إعلاء كلمة الله نياتهم، ولم يثنهم الترهيب والترغيب، والوعد والوعيد، ولم تأخذهم في الله لومة لائم حتى اختلطت على أرض كربلاء دماؤهم، وفُصلت عن أجسادهم رؤوسهم، فكانوا مثالاً لقول امير المؤمنين عليه السلام (صَبَرُوا أَيَّاماً قَصِيرَةً أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةً طَوِيلَةً تِجَارَةٌ مُرْبِحَةٌ يَسَّرَهَا لَهُمْ رَبُّهُمْ أَرَادَتْهُمُ الدُّنْيَا فَلَمْ يُرِيدُوهَا وَأَسَرَتْهُمْ فَفَدَوْا أَنْفُسَهُمْ مِنْهَا . (1) نهج البلاغة

قال ابن أبي الحديد في شرح النهج: قيل لرجل شهد يوم الطف مع عمر ابن سعد: ويحك أقتلتم ذرية رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) فقال: عضضت بالجندل لو شهدت ما شهدنا لفعلت ما فعلنا، ثارت علينا عصابة أيديها في مقابض سيوفها كالأسود الضارية تحطم الفرسان يمينا وشمالا وتلقي أنفسها على الموت لا تقبل الأمان ولا ترغب في المال ولا يحول حائل بينها وبين الورود على حياض المنية أو الاستيلاء على الملك، فلو كففنا عنها رويدا لأتت على نفوس العسكر بحذافيرها، فما كنا فاعلين لا أمّ لك‏.

وكانت هذه المسيرة المباركة محفوفة بالبطولات والمواقف المشّرفة من الشجاعة والايثار والثبات والاصرار حتى رقت ارواحهم الى الرفيق الاعلى وفازوا فوزا عظيما.

وان كان بين هذه المواقف ترابط وانسجام ومحاكاة فالمواقف البطولية هي بحدّ ذاتها مواقف اخلاقية والمواقف الاخلاقية هي رمز للبطولة والشّجاعة وبعضها شرعية تطوي بين ثناياها البطولة والأخلاق.

وسنحاول ان شاء الله تعالى أن نذكر هذه المواقف من النهضة الحسينية حتى يستنير منها الاحرار وطُلاّب الاصلاح ولكي تكون هذه المواقف نهجاً قويما في مسيرتهم، وخُلُقاً رفيعاً في حياتهم.

وفي نفس الوقت أن إلقاء الضوء على المواقف البطولية والاخلاقية والشرعية من النهضة الحسينية تخرس الذين لا همّ لهم سوى التقليل من شأنها والسعي لتعتيمها والتغافل عن أحداثها.

فقلمّا تجد منبرا من هؤلاء يذكر وقائعها المؤلمة على الملأ خشية العزوف اتباعهم عن أصنامهم البشرية كأمثال يزيد ومعاوية وكشف تاريخهم الدموي، ولأجل أهواء تتبع وضغائن دفينة وعصبية متجذرة في النفوس فكانوا بذلك الفعل والعقيدة المريضة ممن خذلوا الحق واهله). 

ثم اننا لا نسعى لاستقصاء جميع المواقف والأحداث ولا نسرد واقعة الطف الأليمة سرداً تاريخياً فهذا يُطلب في مظانها انما نريد ان نضع بين يدي القارئ الكريم المواقف البطولية بعيدا عن الإطناب ولكي تكون هذه المواقف دروسا يحتذي بها أولوا الألباب، وما توفيقي الا من عند الله العزيز الوهاب.                                               

                                                                                 سامي التميمي

 

 

 قال سيد الشهداء عليه السلام:


وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي (صلى الله عليه واله) اُريد أنْ آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب، فمَن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ، ومَن ردّ عليَّ هذا أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين.


الفصل الأول: المواقف البطولية 


  *  صلابة الموقف

* موقف الحرية والثبات 

* الإفصاح والصراح

* اليقين والثقة بالله

 * موقف الفداء والعشق الحسيني 

صلابة الموقف

صلابة موقف سيد الشهداء (عليه السلام) من البيعة ليزيد بن معاوية

فقد جاء في كتب السيرة أنه (لمـّا توفي معاوية بن أبي سفيان وذلك في رجب سنة ستين من الهجرة ـ كتب يزيد بن معاوية إلى الوليد بن عتبة وكان أميراً بالمدينة يأمره بأخذ البيعة له على أهلها وخاصةً على الحسين بن علي عليهما السلام، ويقول له: إن أبى عليك فاضرب عنقه وابعث إليّ برأسه.

فأحضر الوليد مروان بن الحكم واستشاره في أمر الحسين (عليه السلام).

فقال: إنه لا يقبل، ولو كنت مكانك لضربت عنقه.

فقال الوليد: ليتني لم أك شيئاً مذكوراً.

ثم بعث إلى الحسين (عليه السلام)، فجاءه في ثلاثين رجلاً من أهل بيته ومواليه، فنعى الوليد إليه معاوية، وعرض عليه البيعة ليزيد.

فقال: «أيها الأمير، إن البيعة لا تكون سراً، ولكن إذا دعوت الناس غداً فادعنا معهم».

فقال مروان: لا تقبل أيها الأمير عذره، ومتى لم يبايع فاضرب عنقه.

فغضب الحسين (عليه السلام) ثم قال: «ويلي عليك يأبن الزرقاء، أنت تأمر بضرب عنقي، كذبت والله ولؤمت  ».(1)1-اللهوف على قتلى الطفوف ج 1 ص 98

ثم أقبل على الوليد فقال: أيها الأمير) إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة، وبنا فتح الله وبنا ختم الله، ويزيد رجلٌ فاسق شارب الخمر قاتل النفس المحرمة معلن بالفسق ليس له هذه المنزلة، ومثلي لا يبايع مثله ولكن نصبح وتصبحون وننظر وتنظرون أينا أحق بالخلافة والبيعة» ».(1)

ويمكن ان نفهم من هذا الموقف الشجاع والقول الصريح عدة ملاحظات مهمة:

الملاحظة الأولى: صلابة نفسه الأبيّة - صلوات الله عليه - الثابتة على الحق، والرافضة للخنوع والذل والهوان، مع علمه المسبق بالتبعات الثقيلة والتحديات الكبيرة التي سوف تواجهه لهذا الرفض ، ولكنه صلوات الله عليه لم يعبأ بوعيدهم وترهيبهم واخذ يصدح بالحق ( ألَا وإنّ الدَعِيَّ ابنَ الدَعِيِّ قدْ رَكَزَ بينَ اثنَتَينِ: بينَ السِّلَّةِ والذِّلَّةِ، وهيهاتَ منّا الذِّلَّةُ، يأبَى اللهُ لَنَا ذلكَ ورَسُولُهُ والمؤمِنونَ، وحُجورٌ طابَتْ وطَهُرتْ، وأُنُوفٌ حَمِيَّةٌ ونُفُوسٌ أبِيَّةٌ مِنْ أنْ نؤْثِرَ طاعَةَ اللِّئامِ على مصارِعِ الكِرَامِ.

الملاحظة الثانية: التعريف بمقامه الشريف، وأصله المُـنيف، وأنه فرعٌ طاهرٌ مطهرٌ ينحدر من أهل البيت النبوة ومعدن الرسالة قال تعالى (ِانَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ

 وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا.(1)  وقال سبحانه ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ .(2)

الملاحظة الثالثة: المواجهة الشُّجاعة وقولُ الحقِّ وإن عزّ قائلُه في ذكر السّـلوك المنحرف لعدو الله الوضيع يزيد بن معاوية وأنه ليس أهلا للبيعة والخلافة ولذا قال: (ومثلي لا يبايع مثله).

الملاحظة الرابعة: أن الإمام -صلوات الله عليه - أراد بهذا القول الصريح والواضح الذي لا لبس فيه ان يُفهم الحاضرين والسامعين بأنه من بيت الطهارة والقداسة والعلم والرفعة كيف يُطالب ان يبايع شخصا معلناً للفسق والفجور وقاتل النفس المحترمة؟ .

الملاحظة الخامسة: ان هذا الموقف الابـّي والقول الشجاع من سيد الشهداء يخطّ للأحرار وعلى مرّ الدهور والاعصار نهجا قويما ومعلما واضحا بأن لا يرضخوا للباطل مهما واجهوا من تحديات وضغوطات وتهديدات من ائمة الكفر والطغاة.

فمن أراد ان يسير على خُطى سيد الشهداء عليه السلام واهل بيته واصحابه في صلابة الموقف والاباء ان لا يبايع ولا يداهن أهل الباطل من أمثال يزيد. 

الملاحظة السادسة: أن مبايعة الطغاة والفاسدين هو من أوضح مصاديق الركون إليهم والرضا بفعلهم وتقوية ركنهم الذي نهى الله سبحانه عنه بقوله (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ (113) .

الملاحظة السابعة : أن الإمام الحسين عليه السلام حينما بـيـّن منزلته الرفيعة ومنزلة يزيد الوضيعة كأنما اراد بذلك ان يوصل رسالة ضمنية الى الامة المعاصرة له والأمم الآتية بعده مفادها بان من كانت هذه مكانته وشرفه في الاسلام فهو اولى بالخلافة شرعا وعقلا من غيره ؟ وأن يُبايَع لا ان يُبايِع .

ولذا جاء الرفضُ القاطع من قِبل ابي الاحرار.

موقف الإفصاح والصراحة

مما امتازت بها شخصية سيد الشهداء عليه السلام هي مسالة الوضوح والمكاشفة والافصاح مع اهل بيته واصحابه بما يجري ويقع من مجريات وأحداث وتطورات خلال تحركه ومسيرته نحو كربلاء.

فكان سلام الله عليه يُطلع من معه بالأخبار والأحداث التي تصل إليه من الكوفة وان كانت مؤلمة وربما تُثبّط غيرهم من - ضُعّاف النفوس والايمان - وأمّا اهل بيته واصحابه فسيد شهداء يعلم سرائرهم وما انعقدت عليه عزائمهم ونواياهم وهو الذبّ الكُرب عن ريحانة رسول الله صلى الله عليه واله والقتل دونه، وقد وصفهم صلوات الله عليه (والله لقد بلوتهم فما وجدت فيهم إلاَّ الأشوس الأقعس يستأنسون بالمنية دوني استئناس الطفل إلى محالب أمه).

روى عبدُاللهّ بن سليمانَ والمُنْذِرُ بنُ المُشْمَعِلِّ الأسَدِيّانِ قالا : لمّا قَضَيْنا حجَّنا لم تكنْ لنا همةٌ إلاّ اللحاق بالحسينِ في الطّريقِ لننظرَ ما يكونُ من أمرِه ، الى ان قال (فأقبلْنا حتّى لحقْنا الحسينَ صلوات اللهِّ عليه فسايرْناه حتّى نزلَ الثَّعْلَبيَّةَ مُمْسِياً ،  فجئناه حينَ نزلَ فسلّمْنا عليه فــردَّ 

علينا السّلامَ، فقلناَ له: رحمَكَ اللّه ، إِنّ عندَنا خبراً إِن شئتَ حدّثْناكَ علانيةً ، وِانْ شئتَ سِرّاً ؛ فنظرَ إِلينا ِ والى أصحابِه ثمّ قالَ : «   ما دونَ هؤلاءِ سترٌ» فقلنا له: رأيتَ الرّاكبَ الّذي استقبلتَه عشيَّ أمسِ؟ قالَ: «نعم، وقد أردتُ مسألَتَه» فقلنا: قد واللّهِ استبرأْنا لكَ خبرَه، وكفيناكَ مسألَتَه، وهو امِرؤٌ منّا ذو رأْي وصدقٍ وعقلٍ، وِانّه حدّثَنا أنّه لم يخرجْ منَ الكوفةِ حتّى قُتِلَ مسلمٌ وهانئ ، ورَآهما يُجَرّانِ في السُّوقِ بأرجلِهما : فقالَ : «إِنّا للهِّ وِانّا اليه راجعونَ ، رحمةُ اللهِّ عليهما»(1)

 ولذا كان الامام -  سلام الله عليه -  صريحا معهم وقد اعلمهم في مواقف عديدة بما تؤول إليه هذه النهضة من الشدة والتنكيل والقتل والتمثيل فقد روى محمد بن يعقوب الكليني في كتاب الرسائل عن محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن أيوب بن نوح، عن صفوان، عن مروان ابن إسماعيل، عن حمزة بن حمران، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ذكرنا خروج الحسين عليه السلام وتخلف ابن الحنفية فقال أبو عبد الله عليه السلام: يا حمزة إني سأخبرك بحديث لا تسأل عنه بعد مجلسك هذا، إن الحسين لما فصل متوجها، دعا بقرطاس وكتب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن علي بن أبي طالب إلى بني هاشم ( أما بعد فإنه من لحق بي منكم استشهد، ومن تخلف لم يبلغ مبلغ الفتح والسلام

1-     الارشاد ج 2 ص 74

وروي أنه (عليه السلام) لما عزم على الخروج إلى العراق، قام خطيبا فقال: الحمد لله وما شاء الله ، ولا  قوة إلا بالله، [وصلى الله على رسوله] ، خط الموت على ولد آدم  مخط القلادة   على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا لاقيه، كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء، فيملأن مني أكراشا جوفا وأجربة سغبا، لا محيص عن يوم، خط بالقلم، رضى الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين، لن تشذ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لحمته، وهي مجموعة له في حظيرة القدس، تقر بهم عينه، وينجز بهم وعده، من كان باذلا فينا مهجته، وموطنا على لقاء الله نفسه فليرحل معنا فإني راحل مصبحا إن شاء الله [تعالى].(1)

وهذه السمات الحميدة في هذه المواقف الحساسة والخطيرة تُعدّ من أساسيات القائد الإلهي والمربي الروحي مع أصحابه وأتباعه فهو حينما قال: ( «ما دونَ هؤلاءِ سترٌ )  .

أراد بذلك القول ان يشعرهم بقربهم ومنزلتهم منه وأنهم جزءٌ من هذه النهضة المباركة ونحن جميعاً اصحاب قضية واحدة وهدف ومصير واحد فلا ينبغي ان يُخفى عنهم شيء من مجريات الأحداث.

1-اللهوف على قتلى الطفوف ج 2 ص 126

موقف الحرية والثبات

ومن أهم خصائص النهضة الحسينية انها تمّيزت بالحرية والثبات بحيث ان الامام الحسين عليه السلام لم يكره أحدا على اتباعه في مسيرته المباركة، وحتى في أحلك الظروف وأعسرها كان يأذن لهم بتركه ولكنهم آلوا على أنفسهم ان يقاتلوا بين يديه.

وكان الثبات والاصرار منهم على نصرة الحسين عليه السلام والقتل دونه قراراً لا رجعة فيه.

 وكان الثبات على الحق سلوكا وشعارا واضحاً لسيد الشهداء عليه السلام في مواجهة الطغاة والفاسدين ممن زحفوا لقتاله فكان يقول ( ألا وإنّ الدّعيّ ابن الدّعيّ قد ركز بين اثنتين؛ بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة! يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وأنوف حميّة، ونفوس أبيّة، من أن نؤثر طاعة اللّئام على مصارع الكرام. ألا وإنّي زاحف بهذه الأسرة على قلّة العدد وكثرة العدوّ وخذلان الناصر"..

وكان صلوات الله عليه يذكر أبيات فروة بن مسيك المرادي.

 

فـإن نَهـزِمْ  فهزَّامونَ قُدماً        وإن نُهـزم فغيرُ مهزَّمينـا

        وما إن طبّنـا جبنٌ ولكـن       منايانـا ودولـة آخرينـا  

      فقلْ للشـامتين بنا : أفيقوا     سيلقى الشامتون كما لقينا

 

  1. إذا ما الموتُ رفّعَ عن أناسٍ    بكلكـلهِ أنـاخَ بآخرينـا
  2. كذاكَ الدهرُ دولته سِـجالٌ          تكرُّ صـروفه حيناً وحينـا
  3. فبينا ما يسـرُّ به ويرضـى         ولو لبسـت غضارته سنينا
  4. إذا انقلبت به كرّات دهـرٍ        فألفـى للألى غبطوا طعينا
  5. ومن يغبط بريبِ الدهرِ منهم      يجد ريبَ الزمانِ له خؤونا
  6. فلو خلدَ الملوكُ إذاً خلدنـا         ولو بقيَ الكرامُ اذاً بقينـا
  7.     فأفنى ذلكم سَـرَواتِ قومي        كما أفنى  القرونَ الأولينـا (1) 
  8. 1-     اللهوف على قتلى الطفوف ص 59

 بعض المواقف البطولية الدالة على الثبات والاصرار 

الموقف الأول: موقف بني عقيل

لقد اصرّ بنو عقيل على الثبات، والعزم على الاقدام ورفض تقهقر فقد روي لما وصل خبر استشهاد مسلم بن عقيل رضوان الله عليه فنظرَ )الامام الحسين عليه السلام (إِلى بني عقيلٍ فقالَ : «ما تَرَوْنَ؟ فقد قتِلَ مسلمٌ» فقالوا: واللهِّ لا نَرجعُ حتّى نُصيبَ ثأْرَنا أَو نذوقَ ما ذاقَ، فأقبلَ علينا الحسينُ وقالَ: «لا خيرَ في العيشِ بعدَ هؤلاءِ» فعلمْنا أنّه قد عزمَ رأْيَه على المسيرِ، فقلنا له: خارَ اللّهُ لكَ، فقالَ: «رحمَكُما اللّهُ. (1)

وروي (فسار حتى انتهى إلى زبالة فأتاه خبر عبد الله بن يقطر، فأخرج إلى الناس كتابا فقرأه عليهم: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد: فإنه قد أتانا خبر فظيع قتل مسلم بن عقيل، وهانئ بن عروة، وعبد الله بن يقطر، وقد خذلنا شيعتنا، فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف غير حرج، ليس عليه ذمام. (2)

 1-   الإرشاد ج 2 ص 75

2-   نفس المصدر

الموقف الثاني: موقف أهل بيته واولاد عمومته والأصحاب

والموقف الآخر الذي تجلى فيه الثبات والإقدام في اسمى درجاته وذلك لما استقر بهم الحال في كربلاء وبانت الأمور اكثر ايضاحا لأهل بيته واصحابه وان القتل لا مناص منه قال سلام الله عليه: أما بعد فإني لا أعلمُ أصحاباً أولى ولا خيراً من أصحابي ولا أهل بيت أبرَّ ولا أوصل من أهل بيتي فجزاكُم الله عني جميعاً خيراً، ألا وإني أظنُ يوَمنا من هؤلاءِ الاعداءِ غداً إلاّ واني قد أذنتُ لكم، فانطلقِوا جميعاً في حلٍ ليس عليكم حَرجٌ منّي ولا ذمام هذا الّليلُ قد غشيّكم فاتّخذوه جَمَلا(1).

وليأخُذ كلُ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، وتفرّقوا في سَوادِكم ومدائنكم حتى يُفرجَ الله ، فإنَّ القومَ إنما يطلبوني ولو قد أصابوني لَهوا عن طلب غيري.

فقال له إخوتُه وأبناؤه وبنو أخيه وابنا عبد الله بن جعفر: لِم نفعل؟ لنبقى بعدَكَ! لا أرانا الله ذلك أبداً، بدأهم بهذا القولِ، العباسُ بن علي عليه السلام) ثم إنهم تكلموا بهذا أو نحوه....(1)

 1-   الارشاد ج2 ص 92 

وفي رواية أخرى: فقام إليه العباس بن علي أخوه عليهما السلام وعلي ابنه، وبنو عقيل، فقالوا له: معاذ الله والشهر الحرام، فماذا نقول للناس إذا رجعنا إليهم، إنا تركنا سيدنا، وابن سيدنا وعمادنا، وتركناه غرضاً للنبل، ودريئةً للرماح، وجزراً للسباع، وفررنا عنه رغبةً في الحياة، معاذ الله، بل نحيا بحياتك، ونموت معك!! فبكى وبكوا عليه، وجزاهم خيراً (1).

فقال الحسين عليه السلام): يا بني عَقيل، حَسبُكم من القتلِ بمسلِم، اذهبوا قد أذِنتُ لكم! قالوا: فما يقولُ الناس؟ يقولون: أَنا تركنا شَيخَنا وسيدَنا وبني عمومتِنا خيرَ الاعمام، ولم نرْم معَهم بسهم، ولم نطعن معهم برمح، ولم نضرب معهم بسيف، ولا​​ندري ما صنعوا! لا والله لا نفعل، ولكن تفديك أنَفسُنا وأموالنُا وأهلونا ونقاتلُ معك حتى نردَ مورِدَك فقبحَ اللهُ العيشَ بعدَك!

 فقام إليه مسلمُ بنُ عوسجة الاسدي فقال: أنحنُ نخلي عنك ولمّا نعذر إلى الله في أداء حقِك؟ أما واللهِ حتى أكسر في صدورِهمْ رمحي وأضربَهمْ بسيفي ما ثبت قائمُه في يدي ولا أُفارقُكَ ولو لم يكنْ معي سلاح أقاتُلهم به لَقذفتُهم بالحجارة دونَك حتى أموت معك الخ. (2)

1-   مقاتل الطالبيين ص 113

2-   تاريخ الطبري ابن جرير ج  4  ص 318

فهذا الثبات والإصرار في نصرة ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) في ساعة العسرة والمواجهة إنما يدل على المعرفة الحقّة، وقوّة الإيمان، وصلابة الموقف، وأنهم يتحركون من منطلق الحرية ، وشعورهم بالمسؤولية تجاه سيد الشهداء رضوان الله عليهم جميعا.

وكان الامام الحسين عليه السلام يعلم عظمة هذا الموقف الفذ وهو الثبات والعزم منهم على نصرته وعدم التقهقر قيد اُنملة عن ساحة المواجهة ولذا كان يقف على مصارعهم ويتلو قوله تعالى(مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ  وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)   . (1)

وليس جزافا حينما يخاطب ائمتنا  عليهم السلام  عمهم العباس وبقية الشهداء ( رضوان الله عليهم جميعا ) بعبارات معرفية دقيقة التي يُكتشف منها ما مدى تفانيهم وتضحياتهم في نصرة سيد الشهداء عليه السلام : ففي زيارة ابي الفضل  العباس عليه السلام ((سَلامُ اللهِ، وَسَلامُ مَلائِكَتِهِ الْمُقَرَّبِينَ، وَأَنْبِيَائِهِ الْمُرْسَلِينَ، وَعِبادِهِ الصَّالِحِينَ، وَجَمِيعِ الشُّهَدَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ، [وَ] الزَّاكِياتِ الطَّيِّبَاتِ فِيمَا تَغْتَدِي وَتَرُوحُ، عَلَيْكَ يَا ابْنَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، أَشْهَدُ لَكَ بِالتَّسْلِيمِ، وَالتَّصْدِيقِ، وَالْوَفَاءِ، وَالنَّصِيحَةِ لِخَلَفِ النَّبِيِّ الْمُرْسَلِ...

  1-     سورة الأحزاب

السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ الْمُطِيعُ للهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ (عليهم السلام ) والسَّلامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَمَغْفِرَتُهُ وَرِضْوَانُهُ عَلَى رُوحِكَ وَبَدَنِكَ أَشْهَدُ وأُشْهِدُ اللهَ أنَّكَ مَضَيْتَ عَلَى مَا مَضَى بِه الْبَدْرِيُّونَ، وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ، الْمُنَاصِحُونَ لَهُ فِي جِهَادِ أَعْدَائِهِ، الْمُبَالِغُونَ فِي نُصْرَةِ أَوْلِيَائِهِ، الذَّابُّونَ عَنْ أَحِبَّائِهِ.

أَشْهَدُ أنَّكَ قَدْ بَالَغْتَ فِي النَّصِيحَةِ، وَأَعْطَيْتَ غَايَةَ الْمَجْهُودِ... وَأَنَّكَ مَضَيْتَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِكَ مُقْتَدِياً بِالصَّالِحِينَ، وَمُتَّبِعاً لِلنَّبِيّينَ..).(1)

وزيارة الشهداء ( السَّلامُ عَلَيكُم يا اَولِياءَ اللهِ وَاَحِبّائَهُ، السَّلامُ عَلَيكُم يا اَصفِياءَ اللهِ وَاَوِدّاءَهُ، السَّلامُ عَلَيكُم يا اَنصارَ دينِ اللهِ، السَّلامُ عَلَيكُم يا اَنصارَ رَسُولِ اللهِ، السَّلامُ عَلَيكُم يا اَنصارَ اَميرِ المُؤمِنينَ، السَّلامُ عَلَيكُم يا اَنصارَ فاطِمَةَ سَيِّدَةِ نِساءِ العالَمينَ، السَّلامُ عَلَيكُم يا اَنصارَ أَبي مُحَمَّد الحَسَنِ بنِ عَلِيِّ الوَلِيِّ النّاصِحِ، السَّلامُ عَلَيكُم يا اَنصارَ اَبي عَبدِاللهِ، بِاَبي اَنتُم وَاُمّي طِبتُم وَطابَتِ الاَرضُ الَّتي فيها دُفِنتُم، وَفُزتُم فَوزاً عَظيماً، فَيا لَيتَني كُنتُ مَعَكُم فَاَفُوزَ مَعَكُم.

1-   مفاتيح الجنان

2-   بحار الأنوار ج ٩٨ - الصفحة ٢٠١

الموقف الثالث: موقف آخر لأبي الفضل العباس وأخوته عليهم السلام 

ومن المواقف المشرّفة التي تجلّت في واقعة كربلاء هو موقف أبي الفضل واخوته رضوان الله عليهم حينما عُرض عليهم الأمان من اعداء الله شريطة ان يتركوا الحسين عليه السلام وشأنه، فناد الشمرُ العباسَ وإخوته في أرض الطفوف فلم يعيروا له سمعا، ولم يجيبوا له قولا، استخفافا به وتحقيرا له.

 ولكن استجابة وطاعة لأخيهم الحسين عليه السلام أعاروا له سمعهم ليدلو من قيح دلوه النتن ، ويبان للعيان معدنه العفن روي ( انه لما أخذ عبد الله بن حزام ابن خال العباس أمانا من ابن زياد للعباس واخوته من أمه قال العباس واخوته لا حاجة لنا في الأمان أمان الله خير من أمان ابن سمية ومنها أنه لما نادى شمر أين بنو أختنا أين العباس وأخوته فلم يجبه أحد فقال لهم الحسين عليه السلام أجيبوه وان كان فاسقا فإنه بعض أخوالكم قال له العباس ما تريد فقال أنتم يا بني أختي آمنون فقال له العباس لعنك الله ولعن أمانك أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له وتكلم اخوته بنحو كلامه ثم رجعوا )  (1)

 1-   أعيان الشيعة ج 7 ص 430

الموقف الرابع: الموقف البطولي لجون مولى ابي ذر الغفاري

وموقف آخر مشرّف من أحد رجالات النهضة الحسينية والذي يكشف منه مدى الثبات والصمود والتفاني في نصرة سيد الشهداء عليه السلام هو موقف جون مولى ابي ذر الغفار ففي يوم عاشوراء قال له الحسين عليه السلام : أنت في إذن مني ؛ فإنما تبعتنا طلبا للعافية ، فلا تبتل بطريقتنا، فقال يا ابن رسول الله! أنا في الرخاء ألحس قصاعكم، وفي الشدة أخذلكم. والله! إن ريحي لنتن، وحسبي للئيم، ولوني لأسود، فتنفس علي بالجنة، فيطيب ريحي، ويشرف حسبي، ويبيض وجهي، لا والله، لا أفارقكم حتى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم. ثم قاتل حتى استشهد.(1)

وقد ورد أن الإمام الحسين عليه السلام وقف عليه بعد مقتله، وقال: «اَللّهُمَّ بَيِّض وَجهَهُ، وَطَيِّب ريحَهُ، وَاحشُرهُ مَعَ الأبرارِ، وَعَرِّف بَينَهُ وبَينَ مُحمدٍ وآلِ مُحمدٍ».

وأورد العلامة المجلسي في كتاب بحار الأنوار عن الامام الباقر عليه السلام) دفن بعد عشرة أيام وكان الناس يمرون بالمعركة ويشتمون من رائحة المسك.

1- بحار الأنوار ج 45 ص 22

الموقف الخامس: مع محمد بن بشير الحضرمي 

كان محمد بن بشير الحضرمي رضوان الله عليه ممن حضر واقعة كربلاء واستشهد بين يدي الامام الحسين عليه السلام فقيل له: قد أُسر ابنك بثغر الري، فقال: ما أُحب أن يؤسر وأنا أبقى بعده حياً. فقال له الحسين: أنت في حل من بيعتي فاعمل في فكاك ولدك.

قال: لا والله لا أفعل ذلك، أكلتني السباع حياً إن فارقتك! (2)

 نلاحظ كيف ان الامام الحسين عليه السلام لا يُكره أحدا على البقاء معه وأنه يرفع عنهم الذمام ويقول للحضرمي انت حل من بيعتي التي أعطيتنيها وفي المقابل نلاحظ الإصرار والثبات منه بالبقاء مع سيد الشهداء للدفاع عنه والاستشهاد بين يديه. 

  2- اللهوف في قتلى الطفوف ص 57

اليقين والثقة بالله

لا شك ان شهداء كربلاء كانوا جميعهم في أعلى درجات اليقين والطمأنينة والثقة بالله وبقضيتهم المشروعة في نصرة دين الله والذّب الكرب عن آل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويقينهم بما ينتظرهم من الثواب الجزيل من عند الله تعالى لهذا الموقف الشجاع والنبيل الذي قلّ نظيره في تاريخ البشرية.

وان ثباتهم في بذل الانفس مع علمهم بان الموت محقق الوقوع في هذه المواجهة هو دليل واضح على يقينهم وإيمانهم القوي بما أعده الله لهم من الكرامة والحظوة عنده سبحانه يوم القيامة.

وقد بشّرهم الامام الْحُسَيْن (عليه السَّلام) حينما قال لهم) صَبْراً بَنِي الْكِرَامِ، فَمَا الْمَوْتُ إِلَّا قَنْطَرَةٌ يَعْبُرُ بِكُمْ عَنِ الْبُؤْسِ والضَّرَّاءِ إِلَى الْجِنَانِ الْوَاسِطَةِ والنَّعِيمِ الدَّائِمَةِ، فَأَيُّكُمْ يَكْرَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ سِجْنٍ إِلَى قَصْرٍ.

لكن هنالك مواقف بطولية تظهر للعيان من خلال الأفعال والأقوال الصادقة فيخلدها التاريخ فتكون معلما يستنير منه الاحرار في كل زمان وطالبوا الحق والإصلاح، ونذكر عدة مواقف:

موقف عليّ الأكبر عليه السلام

ومن تلك المواقف الشجاعة الباعثة من نفسٍ مطمئنةٍ ومتيقنة بأنها على الحق والصراط القويم هو موقف عليّ الأكبر هذا الفتى الشجاع الذي كان أشبه الناس برسول الله (صلى الله عليه واله) خلقا وخُلُقا ومنطقا والذي أثّر استشهاده اثرا كبيرا على قلب أبيه الإمام الحسين عليه السلام وقال قولته المشهورة (على الدنيا بعدك العفا).

روي ان الحسين عليه السلام (خفق وهو على ظهر فرسه خفقة ثم انتبه، وهو يقول: " إنا لله وإنا إليه راجعون، والحمد لله رب العالمين " ففعل ذلك مرتين أو ثلاثا، فأقبل إليه ابنه علي بن الحسين عليهما السلام على فرس فقال:

ممَ حمدت الله واسترجعت؟ فقال: " يا بني، إني خفقت خفقة فعن لي فارس على فرس وهو يقول: القوم يسيرون، والمنايا تسير إليهم، فعلمت أنها أنفسنا نعيت إلينا " فقال له: يا أبت لا أراك الله سوءا، ألسنا على الحق؟ قال: " بلى، والذي إليه مرجع العباد " قال: فإننا إذا لا نبالي أن نموت محقين، فقال له الحسين عليه السلام: " جزاك الله من ولد خير ما جزى ولدا عن والده.(1)

وفي رواية أخرى ( قَالَ عَلِيُّ الْأَكْبَرِ لِأَبِيهِ الْإِمَامْ الْحُسَيْنُ [ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ ] :“ أَوَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ ؟ ! . فَرَدَّ الْإِمَامْ الْحُسَيْنُ:” بَلَى، والَّذِي إِلَيْهِ مَرْجِعُ الْعِبَادِ “. فَقَالَ عَلِيُّ الْأَكْبَرِ: إِذَنْ لَا نُبَالِي أَوْقَعْنَا عَلَى الْمَوْتِ أَمْ وَقَعَ الْمَوْتُ عَلَيْنَا .(2) 

1-   بحار الأنوار ج 44 ص 379

2-   بحار الأنوار / ج ٤٤ / ص ٣٦٧)

موقف برير بن خضير الهمداني

ان برير الهمداني كان له مواقف بطولية عديدة في كربلاء وكان له مكانة وحظوة عند الحسين عليه السلام )وكان قارئًا ومعلّمًا للقرآن، ومن كبار شجعان الكوفة، وينتمي لقبيلة همدان، يعتبر برير من التابعين وعرف بسيد القراء، وكان يكثر من قراءة القرآن والعبادة في مسجد الكوفة، وله منزلة مرموقة في قبيلة همدان وعند أهل الكوفة.

وكان له موقف مع عبد الرحمن الانصاري في كربلاء يكشف من خلاله عن قوة إيمانه ويقينه وما يرجو من الله تعالى عظيم الأجر فقد روي ) فلما كان الغداة أمر الحسين عليه السلام بفسطاطه فضرب وأمر بجفنة فيها مسك كثير فجعل فيها نورة، ثم دخل ليطلي فروي أن برير بن خضير الهمداني وعبد الرحمن بن عبد ربه الأنصاري وقفا على باب الفسطاط ليطليا بعده، فجعل برير يضاحك عبد الرحمن فقال له عبد الرحمن: يا برير أتضحك؟ ما هذه ساعة باطل، فقال برير: لقد علم قومي أنني ما أحببت الباطل كهلا ولا شابا، وإنما أفعل ذلك استبشارا بما نصير إليه، فوالله ما هو إلا أن نلقى هؤلاء القوم بأسيافنا نعالجهم ساعة ثم نعانق الحور العين.(1)

1-  بحار الأنوار ج  45 ص 1

 

موقف الفداء والعشق الحسيني

ان أنصار الحسين عليه السلام سطّروا أروع التضحيات في واقعة الطف الأليمة وقد مزجوا كلامتهم الصادقة بأفعالهم، وافعالهم مزجوها بكلمات نابعة من العقيدة الراسخة ومن العشق الحسيني.

فكان أحدهم إذا ما أراد البراز للقتال بين يدي الإمام الحسين عليه السلام لا يكتفي بسلّ سيفه وخوض الوغى بل يواسي سيد الشهداء بكلمات ولائية مليئة بالعشق والوفاء والعزيمة والحمية.

فكان همهم هو الفداء عن سيد الشهداء، والدفاع عن دين الله وقيمه وإعلاء كلمته، وفي نفس الوقت لم يخفَ شغفُ العشقِ نحو الحسين عليه السلام من قِبل أنصاره فقد كان بادياً في محياهم وأفعالهم وكلامتهم، فكان عشقهم لسيد الشهداء يدفعهم لخوض اللجج وبذل المهج حفاظا عليه.

فكانت واقعة الطف مشحونة بهذه المواقف الفذة، النابعة من العشق الحسيني وطاعة لمولاهم الحسين عليه السلام، ونذكر بعض المواقف الفدائية من العشق الولائي الحسيني:

 

 

 

موقف مسلمُ بنُ عَوْسَجة

لما اثخن مسلمُ بنُ عَوْسَجة بالجراح وكادت روحه الطاهرة ان ترقى الى بارئها )فسقط إلى الأرض وبه رمق فمشى إليه الحسين، ومعه حبيب بن مظاهر فقال له الحسين عليه السلام: رحمك الله يا مسلم " فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا " ثم دنا منه حبيب فقال: يعز علي مصرعك يا مسلم أبشر بالجنة، فقال له قولا ضعيفا: بشرك الله بخير، فقال له حبيب لولا أعلم أني في الأثر لأحببت أن توصي إلي بكل ما أهمك فقال مسلم:

فاني أوصيك بهذا وأشار إلى الحسين عليه السلام فقاتل دونه حتى تموت، فقال حبيب:

لأنعمنك عينا ثم مات رضوان الله عليه قال: وصاحت جارية له يا سيداه يا ابن عوسجتاه فنادى أصحاب ابن سعد مستبشرين قتلنا مسلم بن عوسجة فقال شبث بن ربعي لبعض من حوله: ثكلتكم أمهاتكم أما إنكم تقتلون أنفسكم بأيديكم وتذلون عزكم أتفرحون بقتل مسلم ابن عوسجة أما والذي أسلمت له لرب موقف له في المسلمين كريم، لقد رأيته يوم آذربيجان قتل ستة من المشركين قبل أن تلتام خيول المسلمين .(1)

 

1-     بحار الأنوار ج 45 ص 20

عابس بن (أبي) شبيب الشاكري

وقد ابلى عابس رضوان الله عليه بلاء عظيما بالدفاع عن الحسين عليه السلام روي وجاء عابس بن أبي شبيب الشاكري ومعه شوذب مولى شاكر فقال يا شوذب ما في نفسك أن تصنع قال ما أصنع أقاتل معك دون ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقتل قال ذلك الظن بك إمالا فتقدم بين يدي أبى عبد الله حتى يحتسبك كما احتسب غيرك من أصحابه وحتى أحتسبك انا فإنه لو كان معي الساعة أحد أنا أولى به منى بك لسرني أن يتقدم بين يدي حتى أحتسبه فإن هذا يوم ينبغي لنا أن نطلب الاجر فيه بكل ما قدرنا عليه فإنه لا عمل بعد اليوم وإنما هو الحساب قال فتقدم فسلم على الحسين ثم مضى فقاتل حتى قتل قال ثم قال عابس بن أبي شبيب يا أبا عبد الله أما والله ما أمسى على ظهر الأرض قريب ولا بعيد أعز عليّ ولا أحب إلى منك ولو قدرت على أن أدفع عنك الضيم والقتل بشئ أعز على من نفسي ودمي لفعلته السلام عليك يا أبا عبد الله أشهد الله أنى على هديك وهدى أبيك ثم مشى بالسيف مصلتا نحوهم وبه ضربة على جبينه (قال أبو مخنف) حدثني نمير بن وعلة عن رجل من بنى عبد من همدان يقال له ربيع بن تميم شهد

 

 

ذلك اليوم قال لما رأيته مقبلا عرفته وقد شاهدته في المغازي وكان أشجع الناس فقلت أيها الناس هذا الأسد الأسود هذا ابن أبي شبيب لا يخرجن إليه أحد منكم فأخذ ينادى ألا رجل لرجل فقال عمر بن سعد ارضخوه بالحجارة قال فرمى بالحجارة من كل جانب فلما رأى ذلك ألقى درعه ومغفره ثم شد على الناس فوالله لرأيته يكرد أكثر من مائتين من الناس ثم إنهم تعطفوا عليه من كل جانب فقتل قال فرأيت رأسه في أيدي رجال ذوي عدة هذا يقول أنا قتلته وهذا يقول أنا قتلته فأتوا عمر بن سعد فقال لا تختصموا هذا لم يقتله انسان واحد ففرق بينهم .(1)

عمرو بن قرظة الأنصاري

فخرج عمرو بن قرظة الانصاري فاستأذن الحسين عليه السلام فأذن له، فقاتل قتال المشتاقين إلى الجزاء، وبالغ في خدمة سلطان السماء، حتى قتل جمعا كثيرا من حزب ابن زياد وجمع بين سداد وجهاد، وكان لا يأتي إلى الحسين عليه السلام سهم إلا اتقاه بيده،

 ولا سيف إلا تلقاه بمهجته، فلم يكن يصل إلى الحسين عليه السلام سوء حتى أثخن بالجراح فالتفت إلى الحسين عليه السلام وقال: يا بن رسول الله أوفيت ؟ ! قال: نعم أنت أمامي في الجنة، فاقرأ رسول الله صلى الله عليه وآله مني السلام، وأعلمه أني في الأثر، فقاتل حتى قتل رضوان الله عليه .

1-   بحار الأنوار ج  4 ص 339

سعيد بن عبد الله الحنفي

وروي أن سعيد بن عبد الله الحنفي تقدّم أمام الحسين عليه السلام، فاستهدف لهم يرمونه بالنبل كلما أخذ الحسين عليه السلام يمينا وشمالا قام بين يديه، فما زال يرمى به حتى سقط إلى الارض وهو يقول: اللهم العنهم لعن عاد وثمود، اللهم أبلغ نبيك السلام عني وأبلغه ما لقيت من ألم الجراح فإني أردت بذلك نصرة ذرية نبيك، ثم مات رضي الله عنه فوجد به ثلاثة عشر سهما سوى ما به من ضرب السيوف وطعن الرماح 1.

حنظلة بن سعد الشبامي

وجاء حنظلة بن سعد الشبامي فوقف بين يدي الحسين عليه السلام يقيه السهام والرماح والسيوف بوجهه ونحره، وأخذ ينادي: يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الاحزاب مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد، ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد، يوم تولون مدبرين، مالكم من الله من عاصم، (و) يا قوم لا تقتلوا حسينا فيسحتكم الله بعذاب، وقد خاب من افترى 2. وفي المناقب: فقال له الحسين عليه السلام: يا بن (أ) سعد رحمك الله إنهم  قد استوجبوا العذاب حين ردوا عليك ما دعوتهم إليه من الحق

1-       كتاب بحار الأنوار ج 45 ص  21

2-       الارشاد ج 2 ص 105

ونهضوا إليك يشتمونك وأصحابك، فكيف بهم الآن وقد قتلوا إخوانك الصالحين، قال: صدقت جعلت فداك أفلا نروح إلى ربنا فنلحق بإخواننا؟ فقال له: رح إلى ما هو خير لك من الدنيا وما فيها، وإلى ملك لا يبلى. فقال: السلام عليك يا بن رسول الله، صلى الله عليك وعلى أهل بيتك، وجمع بيننا وبينك في جنته قال: آمين آمين، ثم استقدم فقاتل قتالا شديدا فحملوا عليه فقتلوه رضوان الله عليه.

القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام

روي في بعض المصادر أن الإمام الحسين خطب في ليلة العاشر من المحرم، وأخبرهم بأنهم

يقتلون في يوم عاشوراء، فسأل القاسمُ الإمامَ عليهما السلام فقال له القاسم بن الحسن عليهما السلام وأنا فيمن يقتل؟ فأشفق عليه، فقال له: يا بني كيف الموت عندك؟

قال يا عم احلى من العسل فقال: أي والله فداك عمك إنك لأحد من يقتل من الرجال معي، بعد ان تبلو ببلاء عظيم .(1)

1- مدينة المعاجز ج 4 ' ص 228

عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام

قال الشيخ المفيد في كتابه الإرشاد: لما رجع الحسين (عليه السلام) من المسناة إلى فسطاطه تقدّم إليه شمر بن ذي الجوشن في جماعة من أصحابه فأحاط به، فأسرع منهم رجل يقال له مالك بن النسر الكندي، فشتم الحسين وضربه على رأسه بالسيف وكان عليه قلنسوة فقطعها

حتى وصل إلى رأسه فأدماه، فامتلأت القلنسوة دما.

فقال له الحسين: "لا أكلت بيمينك ولا شربت بها، وحشرك الله مع الظالمين". ثم ألقى القلنسوة ودعا بخرقة فشد بها رأسه واستدعى قلنسوة أخرى فلبسها واعتمّ عليها، ورجع عنه شمر بن ذي الجوشن ومن كان معه إلى مواضعهم، فمكث هُنَيهَة ثم عاد وعادوا إليه وأحاطوا به.

فخرج إليهم عبد الله بن الحسن بن علي (عليه السلام) وهو غلام لم يراهق من عند النساء يشتد حتى وقف إلى جنب الحسين (عليه السلام)، فلحقته زينب بنت علي عليهما السلام لتحبسه فقال لها الحسين: "أحبسيه يا أختي" فأبى وامتنع عليها امتناعا شديداً.

وقال: والله لا أفارق عمي. وأهوى أبجر بن كعب إلى الحسين (عليه السلام) بالسيف، فقال له الغلام: ويلك يا ابن الخبيثة أتقتل عمي؟! فضربه أبجر بالسيف فاتقاها الغلام بيده فأطنها  إلى الجلدة فإذا يده معلقة، ونادى الغلام: يا أمتاه! فأخذه الحسين (عليه السلام) فضمّه إليه وقال: "يا ابن أخي، اصبر على ما نزل بك، واحتسب في ذلك الخير، فإن الله يلحقك بآبائك الصالحين، فرماه حرملة بسهم فذبحه وهو في حجر عمه. 

سويد بن عمرو بن أبي المطاع

قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي زهير بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ الخثعمي، أن سويد بن عَمْرو بن أبي المطاع كَانَ صرع فأثخن، فوقع بين القتلى مثخنا، فسمعهم يقولون: قتل الْحُسَيْن، فوجد إفاقة، فإذا مَعَهُ سكين وَقَدْ أخذ سيفه، فقاتلهم بسكينه ساعة، ثُمَّ إنه قتل، قتله عروة بن بطار التغلبي، وزَيْد بن رقاد الجنبي، وَكَانَ آخر قتيل. (1)

 1-   تاريخ الطبري ج 5 ص 453


الفصل الثاني: المواقف الأخلاقية

الإيثار

الإعانة 

التوبة

الغيرة الدينية

المبالغة في النصح والوعظ 

الإيثار

الايثار بالنفس

ومن أبرز ما اتسمت بها النهضة الحسينية هي مسالة الايثار بالنفس، ويعد الايثار والجود بالنفس في سبيل الله أفضل الايثار كما قيل) والجود بالنفس أفضل غاية الجود) وقد قال سيد الشهداء (عليه السلام) وحُجور طابت وحجور طهرت، وأُنوف حمية، ونفوس أبية، من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام.

الإيثار بالماء

من الواضح اهمية الماء في الحفاظ على النفس وبدونه يضعف المرء او يهلك وخاصة مع الضرب في الأرض ولهيب الحر تكون الحاجة إليه والحفاظ عليه امر ضروري لا ينبغي التفريط فيه.

ومع ذلك كان الايثار بالماء مع احتياجه إليه على الحر وجيشه هو سيد الموقف عند سيد الشهداء عليه السلام لان قلب الحسين عليه السلام مفعم بالرحمة والشفقة حتى على اعدائه فما كان منـــه الا ان امـــر بسقيهم وتــرشيف خيلهم بل حتى أعان أحدهم بنفسه الشريفة حينما تعتذر عليه شرب الماء قال لفتيانه : اسقوا القوم وأرووهم من الماء، ورشفوا الخيل ترشيفا ففعلوا وأقبلوا يملؤون القصاع والطساس من الماء ثم يدنونها من الفرس، فإذا عب فيها ثلاثا أو أربعا أو خمسا عزلت عنه وسقوا آخر حتى سقوها كلها فقال علي بن الطعان المحاربي: كنت مع الحر يومئذ فجئت في آخر من جاء من أصحابه، فلما رأى الحسين عليه السلام ما بي وبفرسي من العطش قال: " أنخ الراوية " والراوية عندي السقاء، ثم قال:" يا ابن أخي أنخ الجمل " فأنخته فقال: " اشرب " فجعلت كلما شربت سال الماء من السقاء، فقال الحسين عليه السلام: " اخنث السقاء " أي اعطفه، فلم أدر كيف أفعل، فقام فخنثه فشربت وسقيت فرسي.  (1)

ان هذه الروح المملوءة رحمة وشفقة وتواضعا ليست غريبة على أخلاق أهل البيت عليهم السلام ، لان بهذه الأخلاق الرفيعة وبهذه الانفس الكبيرة  امتازوا على سائر الخلق.

مع ان الإمام الحسين عليه السلام يعلم بأن الحر وجيشه جاء لمحاصرته وجعجعته ولكن بالنهاية روح الإيثار هي التي كانت حاكمة وسائدة في هذه الموقف العصيب.

 1-     الإرشاد. ج ٢ - الصفحة ٧٨

ولعل هذا السلوك الأخلاقي الرفيع قد اثّــر على نفسية وقرار الحر بن يزيد الرياحي رضوان الله عليه ونال وسام الشهادة بين يدي سيد الشهداء عليه السلام.

إيثار ومواساة ابي الفضل العباس عليه السلام

وقد ضرب أبو الفضل عليه السلام أسمى درجات الايثار والمواساة مع أخيه الحسين عليهما السلام وذلك لما ورد المشرعة وكان قلبه كالجمرة الملتهبة من العطش (ثمَّ اغترفَ منَ الماءِ غَرفةً، وأدناها منْ فَمهِ ليشرب، فتذكَّرَ عَطشَ أخيهِ الحسينِ عليه السلام وعِيالهِ وأطفالهِ، فرمَى الماءَ منْ يَدهِ وقالَ:

يا نَفْسُ من بعدِ الحسينِ هُوني      وبعدَهُ لاَ كُنْتِ أنْ تَكوني

هذا حسينٌ واردُ المَنونِ          وتَشْربينَ بارِدَ المَعينِ

تاللهِ ما هذا فِعالُ دِيني             ولا فِعَالُ صَادِقِ اليقينِ  

 

وملئ القربة ليحملها الى الخيام ولكن حال الأعداء دون ذلك فارتقى شهيدا.

 الإعانة والمواساة

كان لسيد الشهداء صلوات الله عليه في كل حادثة وواقعة بصمة خير وموقف مُشِّرف خلال نهضته ومسيرته الإصلاحية نحو كربلاء ولم يغفل او يتغافل عن اهل بيته وأصحابه بما يمرون به من صعوبات ومحن خلال هذه المسيرة الخالدة.

ومن تلك المواقف النبيلة مع أحد أصحابه وهو محمد بن بشير الحضرمي (ووصل الخبر إلى محمد بن بشير الحضرمي في تلك الحال بان ابنه قد أسر بثغر الري فقال عند الله احتسبه ونفسي ما كنت أحب أن يؤسر وأبقى بعده فسمع الحسين ع قوله فقال رحمك الله أنت في حل من بيعتي فاعمل في فكاك ابنك فقال أكلتني السباع حيا إن فارقتك قال فأعط ابنك هذا هذه الأثواب البرود يستعين بها في فداء أخيه فأعطاه خمسة أثواب برود قيمتها ألف دينار فحملها مع ولده. (1)

 1-   أعيان الشيعة ج 1 ص 596

التوبة وحسن العاقبة

وقد نالت العناية الربانية والتوفيق الإلهي الحر بن يزيد الرياحي رضوان الله عليه في آخر لحظاته، وأدرك ببصيرته الثاقبة وتحرره من العصبية العمياء أنه إذا ما بقي يحارب الامام الحسين عليه السلام سيؤول مصيره الى سوء العاقبة، فندم مما كان منه وقاتل ونال وسام الشهادة.

روي )فأقبل الحر حتى وقف من الناس موقفا، ومعه رجل من قومه يقال له: قرة بن قيس، فقال: يا قرة هل سقيت فرسك اليوم؟ قال: لا، قال: فما تريد أن تسقيه؟ قال قرة: فظننت والله أنه يريد أن يتنحى فلا يشهد القتال، ويكره أن أراه حين يصنع ذلك، فقلت له: لم أسقه وأنا منطلق فأسقيه، فاعتزل ذلك المكان الذي كان فيه، فوالله لو أنه أطلعني على الذي يريد لخرجت معه إلى الحسين بن علي عليه السلام؟  فأخذ يدنو من الحسين قليلا قليلا فقال له المهاجر بن أوس: ما تريد يا ابن يزيد، أتريد أن تحمل؟ فلم يجبه وأخذه مثل الأفكل وهي الرعدة فقال له المهاجر : إن أمرك لمريب، والله ما رأيت منك في موقف قط مثل هذا، ولو قيل لي: من أشجع أهل الكوفة ما عدوتك، فما هذا الذي أرى منك؟!  فقال له الحر: إني والله أخير نفسي بين الجنــة والنار ،  فوالله لا أخـتار على الجــنة شيئا ولو قطعت وحرقت ثم ضرب فرسه فلحق بالحسين عليه السلام فقال: له جعلت فداك - يا ابن رسول الله - أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع، وسايرتك في الطريق، وجعجعت بك في هذا المكان، وما ظننت أن القوم يردون عليك ما عرضته عليهم، ولا يبلغون منك هذه المنزلة، والله لو علمت أنهم ينتهون بك إلى ما أرى ما ركبت منك الذي ركبت، وإني تائب إلى الله تعالى مما صنعت، فترى لي من ذلك توبة ؟ فقال له الحسين عليه السلام: " نعم، يتوب الله عليك فأنزل " قال: فأنا لك فارسا خير مني راجلا، أقاتلهم على فرسي ساعة، وإلى النزول ما يصير آخر أمر فقال له الحسين عليه السلام :  فاصنع - يرحمك الله - ما بدا لك ".

فاستقدم أمام الحسين عليه السلام ثم أنشأ رجل من أصحاب الحسين عليه السلام يقول:

لنعم الحر حر بني رياح  *  وحر عند مختلف الرماح

ونعم الحر إذ نادى حسين *  وجاد بنفسه عند الصباح

ثم قال: يا أهل الكوفة، لأمكم الهبل والعبر، أدعوتم هذا العبد الصالح حتى إذا أتاكم أسلمتموه ، وزعمتم أنكم قاتلوا أنفسكم دونه  ثم عدوتم  عليه لتقتلوه، أمسكتم بنفسه وأخذتم بكظمه، وأحطتم به من كل جانب لتمنعوه التوجه في بلاد الله العريضة، فصار كالأسير في أيديكم لا يملك لنفسه نفعا ولا يدفع عنها ضرا، وحلأتموه ونساءه وصبيته وأهله عن ماء الفرات الجاري يشربه اليهود والنصارى والمجوس وتمرغ فيه خنازير السواد (1) وكلابه، وها هم قد صرعهم العطش، بئس ما خلفتم محمدا في ذريته، لا سقاكم الله يوم الظمأ الأكبر. فحمل عليه رجال يرمون بالنبل، فأقبل حتى وقف أمام الحسين عليه السلام  انتهى. (1)1-       الإرشاد الشيخ المفيد ج 2  ص  99

الغيرة الدينية

مع تترى المحن كقطع الليل المظلم على قلب سيد الشهداء خلال مسيرته الخالدة من أجل الإصلاح في امة جده (صلى الله عليه وآله ( وقلّة الناصر ، وخذلان الاخر ، وغدر الكوفة له لكنه لم يغفل لحظة عن نساءه وكان يأرقه حالهن خوفا عليهن من العُتاة الذين انسلخوا عن الدين والإنسانية وقست قلوبهم فهي كالحجارة او أشد قسوة.

وقد ذكر بعض ارباب المقاتل والسير ان الحسين عليه السلام اتخذ أمورا احترازية قبل القتال فأمر بحفر خندق حول المعسكر والخيام، وأضرم فيه النار خشية ان يباغتهم العدو من الخلف.

ولكن هذا لا يمنع ان يكون هذا الاحتراز أيضا لمنع العُتاة من الاقتراب الى النساء والتعرّض لهن بسوء. فقد روي ( فصاح بهم: «يا شيعة آل أبي سفيان، إنْ لَم يكن لكم دين وكنتم ولا تخافون المعاد، فكونوا أحراراً في دنياكم ، وارجعوا إلى أحسابكم إنْ كنتم عرباً ، فناداه شمر : ما تقول يا ابن فاطمة ؟ قال : «أنا الذي اُقاتلكم ، والنّساء ليس عليهنّ جناح ، فامنعوا عتاتكم عن التعرّض لحرمي ما دمتُ حيّاً . (1) 

 1-   البحار ج 45 ص 51

وان هذا الموقف الرفيع والشريف اعظم درسًا وذكرى ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ 37   .(1)

فتجده حتى في لحظاته الأخيرة) سلام الله عليه ( يُصيح بالقوم بعدم التعرض الى نسائه.

وكل ذلك نابع من الغيرة الدينية على عرضه وشرفه، مع ان الله تعالى حامي النساء والعيال وحافظهم من كل سوء فقد روي إنّه (عليه السّلام) ودّع عياله ثانياً، وأمرهم بالصبر ولبس الأزر وقال: «استعدّوا للبلاء، واعلموا أنّ الله تعالى حاميكم وحافظكم، وسينجيكم من شرّ الأعداء، ويجعل عاقبة أمركم إلى خير ، ويعذِّب عدوّكم بأنواع العذاب ، ويعوّضكم عن هذه البليّة بأنواع النّعم والكرامة ، فلا تشكوا ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص من قدركم.

 1-  سورة ق

المبالغة في النصح والوعظ

لقد أولى الامام الحسين عليه السلام اهتماما كبيرا في النُصح والوعظ وفي مواقف عديدة بدءً من عزمه على الخروج من حرم جدّه (صلى الله عليه وآله) وفي مكة المشرفة وخلال مسيرته الى كربلاء الى ان استقر به الفضاء فيها وكانت المواعظ والخطب تترى كلما سنحت الفرصة وخاصة في ليلة العاشر من المحرم ونهاره.

فتارة يذم الدنيا وأهلها وأخرى يشحذ الهمم لنصرته وأخرى يحذر اعدائه وينذرهم مغبة فعلهم وليقيم الحجة عليهم ولعلهم يرشدون قال تعالى ( لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ۗ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)  وقال عز وجل  ( وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا  اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ۖ قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) .(2)

وقد سار اهلُ بيته واصحابه على هذا النهج القويم فكانت لهم مواعظ ونصائح في كربلاء وسنذكر ان شاء الله الخُطب التي أُلقيت خلال المسيرة الحسينية وفي كربلاء على نحو التالي :

 1-       سورة الأنفال 42

2-       سورة الأعراف

خطب الإمام الحسين عليه السلام

عند خروجه الى العراق

روي أنه لما عزم على الخروج إلى العراق قام خطيباً، فقال: «  الْحَمْدُ لِلَّهِ ؛ مَا شَاءَ اللَهُ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاللَهِ ؛ وَصَلَّى‌ اللَهُ عَلَي‌ رَسُولِهِ . خُطَّ الْمَوْتُ عَلَي‌ وُلْدِ آدَمَ مَخَطَّ الْقِلاَدَةِ عَلَي‌ جِيدِ الْفَتَاةِ. وَمَا أَوْلَهَنِي‌ إلَي‌ أَسْلاَفِي‌ اشْتِيَاقَ يَعْقُوبَ إلَي‌ يُوسُفَ. وَخُيِّرَ لِي‌ مَصْرَعٌ أَنَا لاَقِيهِ؛ كَأَنِّي‌ بَأَوْصَالِي‌ تَتَقَطَّعُهَا عُسْلاَنُ الْفَلَوَاتِ بَيْنَ النَّوَاوِيسِ وَكَرْبَلاَءَ؛ فَيَمْلاَنَ مِنِّي‌ أَكْرَاشاً جُوفاً، وَأَجْرِبَةً سُغْباً. لاَ مَحِيصَ عَنْ يَوْمٍ خُطَّ بِالْقَلَمِ. رِضَا اللَهِ رِضَانَا أَهْلَ الْبَيْتِ؛ نَصْبِرُ عَلَي‌ بَلاَئِهِ، وَيُوَفِّينَا أُجُورَ الصَّابِرِينَ. لَنْ تَشُذَّ عَنْ رَسُولِ اللَهِ صَلَّي‌ اللَهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ لُحْمَتُهُ، وَهِي‌َ مَجْمُوعَةٌ لَهُ فِي‌ حَظِيرَةِ الْقُدْسِ، تَقِرُّ بِهِمْ عَيْنُهُ، وَيُنْجَزُ لَهُمْ وَعْدُهُ. مَنْ كَانَ فِينَا بَاذِلاً مُهْجَتَهُ، وَمُوَطِّناً عَلَي‌ لِقَاءِ اللَهِ نَفْسَهُ، فَلْيَرْحَلْ مَعَنَا؛ فَإنَّنِي‌ رَاحِلٌ مُصْبِحاً إنْ شَاءَ اللَهُ تَعَالَى.

 1-          اللهوف على قتلى الطفوف ج 1 ص127   .

عند لقائه صلوات الله عليه بالحر بن يزيد الرياحي

قال: فوردَ كتاب عبيد الله بن زياد إلى الحر يلومه في أمر الحسين، ويأمره بالتضييق عليه.

فعرض له الحر وأصحابه ومنعوه من المسير.

فقال له الحسين عليه السلام: «ألم تأمرنا بالعدول عن الطريق؟

فقال الحر: بلى، ولكن كتاب الأمير عبيد الله بن زياد قد وصل يأمرني فيه بالتضييق عليك، وقد جعل علي عيناً يطالبني بذلك.

قال الراوي  » نَزَلَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ بِحُسينٍ، وَأَيْقَنَ أَنَّهُمْ قَاتِلُوهُ، وَقَامَ فِي أَصْحَابِهِ خَطِيبًا، فَحَمِدَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «قَدْ نَزَلَ مَا تَرَوْنَ مِنَ الْأَمْرِ، وَإِنَّ الدُّنْيَا تَغَيَّرَتْ وَتَنَكَّرَتْ وَأَدْبَرَ مَعْرُوفُهَا، واسْتَمَرَّتْ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا كَصُبَابَةِ الْإِنَاءِ إِلَّا خَسِيسُ عَيْشٍ كَالمَرْعَى الْوَبِيلِ، أَلَا تَرَوْنَ الْحَقَّ لَا يُعْمَلُ بِهِ، وَالْبَاطِلَ لَا يُتَنَاهَى عَنْهُ، لِيَرْغَبِ الْمُؤْمِنُ فِي لِقَاءِ اللهِ، وَإِنِّي لَا أَرَى الْمَوْتَ إِلَّا سَعَادَةً، وَالْحَيَاةَ مَعَ الظَّالِمِينَ إِلَّا بُرْمًا .  (1)

 1-       المعجم الكبير الطبراني ج 3 ص 114

خطبته لأصحابه وأصحاب الحر

نُقل ‌عن ‌الطبري ‌(المؤرخ الشهير)أنّ الحسين ‌عليه ‌السّلام ‌خطب ‌أصحابه ‌وأصحاب ‌الحرّ في ‌«البَيْضَة‌» (على طريق كربلاء) : فَحَمِدَ اللَهَ وَأَثْنَى ‌عَلَيْهِ ؛ ثُمَّ قَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ ! إنّ َرَسُولَ اللَهِ صَلَّى اللَهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ قَالَ: مَنْ رَأَي ‌سُلْطَاناً جَائِراً مُسْتَحِلاّ لِحُرَمِ اللَهِ، نَاكِثاً لِعَهْدِ اللَهِ، مُخَالِفاً لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَهِ صَلَّى ‌اللَهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، يَعْمَلُ فِي ‌عِبَادِ اللَهِ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ، فَلَمْ يُعَيِّرْ (او يُغَيِّرْ) ِفِعْلٍ وَلاَ قَوْلٍ؛ كَانَ حَقّاً عَلَي ‌اللَهِ أَنْ يُدْخِلَهُ مَدْخَلَهُ. أَلاَ وَإنَّ هَؤُلاَءِ قَدْ لَزِمُوا طَاعَةَ الشَّيْطَانِ، وَتَرَكُوا طَاعَةَ الرَّحْمَنِ، وَأَظْهَرُوا الْفَسَادَ، وَعَطَّلُوا الْحُدُودَ، وَاسْتَأْثَرُوا بِالْفَي‌ْءِ ، وَأَحَلُّوا حَرَامَ اللَهِ ، وَحَرَّمُوا حَلاَلَهُ؛ وَأَنَا أَحَقُّ مِنْ غَيْرٍ مَنْ غَيَّرَ؛ مَنْ عَيَّرَ. وَقَدْ أَتَتْنِي ‌كُتُبُكُمْ، وَقَدِمَتْ عَلَي ‌َّرُسُلُكُمْ بِبَيْعَتِكُمْ أَنَّكُمْ لاَ تُسَلِّمُونِي ‌وَلاَ تَخْذُلُونِي‌؛ فَإنْ تَمَمْتُمْ عَلَي ‌بَيْعَتِكُمْ تُصِيبُوا رُشْدَكُمْ. فَأَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِي‌ وَابْنُ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُول ِاللَهِ صَلَّى ‌اللَهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ؛ نَفْسِي ‌مَعَ أَنْفُسِكُمْ، وَأَهْلِي ‌مَعَ أَهْلِيكُمْ ؛ فَلَكُمْ فِي ‌َّأُسْوَةٌ . وإنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَنَقَضْتُمْ عَهْدَكُمْ، وَخَلَعْتُمْ بَيْعَتِي ‌مِنْ أَعْنَاقِكُمْ، فَلَعَمْرِي ‌مَا هِي‌َ لَكُمْ بِنُكْرٍ؛ لَقَدْ فَعَلْتُمُوهَا بِأَبِي ‌وَأَخِي ‌وَابْنِ عَمِّي ‌مُسْلِمٍ . وَالْمَغْرُورُ مَنِ اغْتَـرَّ بِـكُمْ؛ فَحَظَّكُمْ أَخْطَأْتُمْ؛ وَنَصِيبَكُمْ ضَيَّعْتُمْ؛ وَمَن‌ نكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَي‌’ نَفْسِهِ. وَسَيُغْنِي ‌اللَهُ عَنْكُمْ. وَالسَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَهِ وَبَرَكَاتُهُ.

 خطبته‌ عليه‌ السلام‌ صبيحة‌ يوم‌ عاشوراء وما جرى بعدها:

أَيُّهَا النَّاسُ، اسمعوا قولي، وَلا تعجلوني حَتَّى أعظكم بِمَا لحق لكم علي، وحتى أعتذر إليكم من مقدمي عَلَيْكُمْ، فإن قبلتم عذري، وصدقتم قولي، وأعطيتموني النصف، كنتم بِذَلِكَ أسعد، ولم يكن لكم علي سبيل، وإن لم تقبلوا مني العذر، ولم تعطوا النصف من أنفسكم «فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ» ، «إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ» قَالَ: فلما سمع أخواته كلامه هَذَا صحن وبكين، وبكى بناته فارتفعت أصواتهن، فأرسل إليهن أخاه العباس ابن علي وعليا ابنه، وَقَالَ لهما: أسكتاهن، فلعمري ليكثرن بكاؤهن، قَالَ: فلما ذهبا ليسكتاهن قَالَ: لا يبعد ابن عَبَّاس، قَالَ: فظننا أنه إنما قالها حين سمع بكاؤهن، لأنه قَدْ كَانَ نهاه أن يخرج بهن، فلما سكتن حمد اللَّه وأثنى عَلَيْهِ، وذكر اللَّه بِمَا هو اهله، وصلى على محمد ص وعلى ملائكته وأنبيائه، فذكر من ذَلِكَ مَا اللَّه أعلم وما لا يحصى ذكره.

قَالَ: فوالله مَا سمعت متكلما قط قبله وَلا بعده أبلغ فِي منطق مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فانسبوني فانظروا من أنا، ثُمَّ ارجعوا إِلَى أنفسكم وعاتبوها، فانظروا، هل يحل لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ 

 ألست ابن بنت نبيكم ص وابن وصيه وابن عمه، وأول الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ والمصدق لِرَسُولِهِ بِمَا جَاءَ بِهِ من عِنْدَ ربه! او ليس حمزة سيد الشهداء عم أبي! أوليس جَعْفَر الشهيد الطيار ذو الجناحين عمى! [او لم يبلغكم قول مستفيض فيكم: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ )صلى الله عليه واله (قَالَ لي ولأخي: هَذَانِ سيدا شباب أهل الجنة!] فإن صدقتموني بِمَا أقول- وَهُوَ الحق- فو الله مَا تعمدت كذبا مذ علمت أن اللَّه يمقت عَلَيْهِ أهله، ويضر بِهِ من اختلقه، وإن كذبتموني فإن فيكم من إن سألتموه عن ذَلِكَ أخبركم، سلوا جابر بن عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيّ، أو أبا سَعِيد الخدري، أو سَهْل بن سَعْد الساعدي، أو زَيْد بن أَرْقَمَ، أو أنس بن مالك، يخبروكم أَنَّهُمْ سمعوا هذه المقالة من رسول الله ص لي ولأخي.

أفما فِي هَذَا حاجز لكم عن سفك دمي! فَقَالَ لَهُ شمر بن ذي الجوشن: 

هُوَ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ ان كان يدري ما يقول! فَقَالَ لَهُ حبيب بن مظاهر: وَاللَّهِ إني لأراك تعبد اللَّه عَلَى سبعين حرفا، وأنا أشهد أنك صادق مَا تدري مَا يقول، قَدْ طبع اللَّه عَلَى قلبك، ثُمَّ قَالَ لَهُمُ الْحُسَيْن: فإن كنتم فِي شك من هَذَا القول أفتشكون أثرا مَا أني ابن بنت نبيكم! فو الله مَا بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري مِنْكُمْ وَلا من غيركم، أنا ابن بنت نبيكم خاصة.

 أخبروني، أتطلبوني بقتيل مِنْكُمْ قتلته، أو مال لكم استهلكته، أو بقصاص من جراحة؟ قَالَ: فأخذوا لا يكلمونه، قَالَ: فنادى: يَا شبث بن ربعي، ويا حجار بن أبجر، ويا قيس بن الأشعث، ويا يَزِيد بن الْحَارِث، ألم تكتبوا إلي أن قَدْ أينعت الثمار، واخضر الجناب، وطمت الجمام، وإنما تقدم عَلَى جند لك مجند، فأقبل! قَالُوا لَهُ: لم نفعل، فَقَالَ: سبحان اللَّه! بلى وَاللَّهِ، لقد فعلتم، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إذ كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إِلَى مأمني من الأرض، قَالَ: فَقَالَ لَهُ قيس بن الاشعث: او لا تنزل عَلَى حكم بني عمك، فإنهم لن يروك إلا مَا تحب، ولن يصل إليك منهم مكروه؟ فقال الْحُسَيْن: أنت أخو أخيك، أتريد أن يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل، [لا وَاللَّهِ لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل، وَلا أقر إقرار العبيد عباد اللَّه، إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ أعوذ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يؤمن بيوم الحساب، قَالَ:] ثُمَّ إنه أناخ راحلته، وأمر عقبة بن سمعان فعقلها، وأقبلوا يزحفون نحوه. (1)1- تاريخ الطبري ابن جرير ج 5 ص 426

خطبة‌ اخرى يوم‌ عاشوراء

فَقَامَ الْحُسَيْنُ ( عليه السلام ) ثُمَّ قَالَ تَبّاً لَكُمْ أَيَّتُهَا الْجَمَاعَةُ وَتَرَحاً أَ فَحِينَ اسْتَصْرَخْتُمُونَا وَلِهِينَ مُتَحَيِّرِينَ فَأَصْرَخْتُكُمْ مُؤَدِّينَ مُسْتَعِدِّينَ سَلَلْتُمْ عَلَيْنَا سَيْفاً فِي رِقَابِنَا وَحَشَشْتُمْ عَلَيْنَا نَارَ الْفِتَنِ خَبَأَهَا عَدُوُّكُمْ وَ عَدُوُّنَا فَأَصْبَحْتُمْ أَلْباً عَلَى أَوْلِيَائِكُمْ وَ يَداً عَلَيْهِمْ لِأَعْدَائِكُمْ بِغَيْرِ عَدْلٍ أَفْشَوْهُ فِيكُمْ وَ لَا أَمَلٍ أَصْبَحَ لَكُمْ فِيهِمْ إِلَّا الْحَرَامُ مِنَ الدُّنْيَا أَنَالُوكُمْ وَ خَسِيسُ عَيْشٍ طَمِعْتُمْ فِيهِ مِنْ غَيْرِ حَدَثٍ كَانَ مِنَّا لَا رَأْيَ تَفَيَّلَ لَنَا فَهَلَّا لَكُمُ الْوَيْلَاتُ إِذْ كَرِهْتُمُونَا وَ تَرَكْتُمُونَا تَجَهَّزْتُمُوهَا وَالسَّيْفُ لَمْ يُشْهَرْ وَ الْجَأْشُ طَامِنٌ وَ الرَّأْيُ لَمْ يُسْتَحْصَفْ وَ لَكِنْ أَسْرَعْتُمْ عَلَيْنَا كَطَيْرَةِ الذُّبَابِ وَ َدَاعَيْتُمْ كَتَدَاعِي الْفَرَاشِ فَقُبْحاً لَكُمْ فَإِنَّمَا أَنْتُمْ مِنْ طَوَاغِيتِ الْأُمَّةِ وَ شُذَاذِ الْأَحْزَابِ وَ نَبَذَةِ الْكِتَابِ وَ نَفَثَةِ الشَّيْطَانِ وَ عُصْبَةِ الْآثَامِ وَ مُحَرِّفِي الْكِتَابِ وَ مُطْفِئِ السُّنَنِ وَ قَتَلَةِ أَوْلَادِ الْأَنْبِيَاءِ و مُبِيرِي عِتْرَةِ الْأَوْصِيَاءِ وَ مُلْحِقِي الْعُهَّارِ بِالنَّسَبِ وَ مُؤْذِي الْمُؤْمِنِينَ و صُرَّاخِ أَئِمَّةِ الْمُسْتَهْزِئِينَ‏  الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ‏ وَأَنْتُمْ- ابْنَ حَرْبٍ وَ أَشْيَاعَهُ تَعْتَمِدُونَ وَ إِيَّانَا تُخَاذِلُونَ أَجَلْ وَ للَّهِ الْخَذْلُ فِيكُمْ مَعْرُوفٌ وَشَجَتْ عَلَيْهِ عُرُوقُكُمْ وَ تَوَارَثَتْهُ أُصُولُكُمْ وَفُرُوعُكُمْ وَ ثَبَتَتْ عَلَيْهِ‏ قُلُوبُكُمْ وَغُشِيَتْ صُدُورُكُمْ فَكُنْتُمْ أَخْبَثَ شَيْ‏ءٍ سِنْخاً لِلنَّاصِبِ وَ أُكْلَةً لِلْغَاصِبِ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى النَّاكِثِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ‏

الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا فَأَنْتُمْ وَاللَّهِ هُمْ. أَلَا إِنَّ الدَّعِيَّ ابْنَ الدَّعِيَّ قَدْ رَكَزَ بَيْنَ اثْنَتَيْنِ بَيْنَ القلة السَّلَّةِ وَالذِّلَّةِ وَهَيْهَاتَ مَا آخُذُ الدَّنِيَّةَ أَبَى اللَّهُ ذَلِكَ وَرَسُولُهُ وَ جُدُودٌ طَابَتْ وَ حُجُورٌ طَهُرَتْ وَ أُنُوفٌ حَمِيَّةٌ وَ نُفُوسٌ أَبِيَّةٌ لَا تُؤْثِرُ مَصَارِعَ اللِّئَامِ عَلَى مَصَارِعِ الْكِرَامِ أَلَا قَدْ أَعْذَرْتُ وَ أَنْذَرْتُ أَلَا إِنِّي زَاحِفٌ بِهَذِهِ الْأُسْرَةِ عَلَى قِلَّةِ الْعَتَادِ وَ خُذَلَةِ الْأَصْحَابِ ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ‏

فَإِنْ نَهْزِمْ فَهَزَّامُونَ قِدْماً* * * وَ إِنْ نُهْزَمْ فَغَيْرُ مُهَزَّمِينَا

وَ مَا إِنْ طِبُّنَا جُبْنٌ وَ لَكِنْ‏* * * مَنَايَانَا وَ دَوْلَةُ آخَرِينَا

أَلَا ثُمَّ لَا تَلْبَثُونَ بَعْدَهَا إِلَّا كَرَيْثِ مَا يُرْكَبُ الْفَرَسُ حَتَّى تَدُورَ بِكُمُ الرَّحَى عَهْدٌ عَهِدَهُ إِلَيَّ أَبِي عَنْ جَدِّي‏ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَ شُرَكاءَكُمْ‏ ثُمَّ كِيدُونِ‏ جَمِيعاً فَلا تُنْظِرُونِ‏ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَ رَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ‏ .

اللَّهُمَّ احْبِسْ عَنْهُمْ قَطْرَ السَّمَاءِ وَ ابْعَثْ عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ وَ سَلِّطْ عَلَيْهِمْ غُلَامَ ثَقِيفٍ يَسْقِيهِمْ كَأْساً مُصَبَّرَةً وَلَا يَدَعُ فِيهِمْ أَحَداً إِلَّا قَتَلَهُ قَتْلَةً بِقَتْلَةٍ وَضَرْبَةً بِضَرْبَةٍ يَنْتَقِمُ لِي وَلِأَوْلِيَائِي وَ أَهْلِ بَيْتِي وَ أَشْيَاعِي مِنْهُمْ فَإِنَّهُمْ غَرُّونَا وَ كَذَبُونَا وَ خَذَلُونَا وَ أَنْتَ رَبُّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَ إِلَيْكَ أَنَبْنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ . (1)1-       نفس المصدر السابق

خطبة أخرى في يوم عاشوراء

يَا شِيعَةَ آلِ أَبِي‌ سُفْيَانَ! إنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ دِينٌ، وَكُنْتُمْ لاَ تَخَافُونَ الْمَعَادَ، فَكُونُوا أَحْرَاراً فِي ‌دُنْيَاكُمْ! وَارْجِعُوا إلَي‌ أَحْسَابِكُمْ إنْ كُنْتُمْ عُرْباً كَمَا تَزْعُمُونَ! فناداه‌ شمر: ما تقولُ يا ابنَ فاطمة‌! قال‌: أنا الذي‌ أقاتلكم‌ والنِّساءُ ليس‌ عليهنّ جُناح‌ فامنعوا عُتاتكم‌ عن‌ التعرّض‌ لحرمي‌ ما دمتُ حيّاً. قَالَ اقْصُدُونِي‌ بِنَفْسِي‌ وَاتْرُكُوا حَرَمِي‌ قَدْ حَانَ حِينِي‌ وَقَدْ لاَحَتْ لَوَائِحُهُ فقال‌ شمر: لك‌ ذلك‌! وقصده‌ القوم‌، واشتدّ القتال‌ وقد اشتدّ به‌ العطش‌. ثمّ إنّه‌ عليه‌ السلام‌ رجع‌ إلي‌ الخيمة‌ وودّع‌ عياله‌ ثانياً، فحملوا عليه‌ يرمونه‌ بالسهام‌، فحمل‌ عليهم‌ كالليث‌ الغضبان‌، ورجع‌ إلي‌ مركزه‌ يُكثر من‌ قول‌: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاللَهِ!

خطبة ليلة عاشوراء

فجمع الحسين عليه السلام أصحابه عند قرب المساء. قال علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام: " فدنوت منه لأسمع ما يقول لهم، وأنا إذ ذاك مريض، فسمعت أبي يقول لأصحابه: أثني على الله أحسن الثناء، وأحمده على السراء والضراء، اللهم إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة وعلمتنا القرآن وفقهتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعا وأبصارا وأفئدة، فاجعلنا من الشاكرين.

أما بعد: فإني لا أعلم أصحابا أوفى ولا خيرا من أصحابي، ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتي فجزاكم الله عني خيرا، ألا وإني لأظن أنه آخر  يوم لنا من هؤلاء، ألا وإني قد أذنت لكم فانطلقوا جميعا في حل ليس عليكم مني ذمام، هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا.(1)

خطبة اخرى

وتقدم الحسين  ( عليه السلام ) حتى وقف بإزاء القوم فجعل ينظر إلى صفوفهم كأنهم السيل ونظر إلى ابن سعد واقفا في صناديد الكوفة فقال الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ الدُّنْيَا فَجَعَلَهَا دَارَ فَنَاءٍ وَزَوَالٍ مُتَصَرِّفَةً بِأَهْلِهَا حَالًا بَعْدَ حَالٍ فَالْمَغْرُورُ مَنْ غَرَّتْهُ‏ وَالشَّقِيُّ مَنْ فَتَنَتْهُ فَلَا تَغُرَّنَّكُمْ هَذِهِ الدُّنْيَا فَإِنَّهَا تَقْطَعُ رَجَاءَ مَنْ رَكِنَ إِلَيْهَا وَتُخَيِّبُ طَمَعَ مَنْ طَمِعَ فِيهَا وَ أَرَاكُمْ قَدِ اجْتَمَعْتُمْ عَلَى أَمْرٍ قَدْ أَسْخَطْتُمُ اللَّهَ فِيهِ عَلَيْكُمْ وَ أَعْرَضَ بِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ عَنْكُمْ وَأَحَلَّ بِكُمْ نَقِمَتَهُ وَجَنَّبَكُمْ رَحْمَتَهُ فَنِعْمَ الرَّبُّ رَبُّنَا وَبِئْسَ الْعَبِيدُ أَنْتُمْ أَقْرَرْتُمْ بِالطَّاعَةِ وَ آمَنْتُمْ بِالرَّسُولِ مُحَمَّد ( ٍصلى الله عليه واله)ثُمَّ إِنَّكُمْ زَحَفْتُمْ  إِلَى ذُرِّيَّتِهِ وَعِتْرَتِهِ تُرِيدُونَ  قَتْلَهُمْ  لَقَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْكُمُ

1-       الارشاد ج 2 ص 91 

الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاكُمْ  ذكر اللَّهِ الْعَظِيمِ فَتَبّاً لَكُمْ وَلِمَا تُرِيدُونَ‏ إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ‏ َهؤُلَاءِ قَوْمٌ‏ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ‏ فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ‏ فَقَالَ عُمَرُ وَيْلَكُمْ كَلِّمُوهُ فَإِنَّهُ ابْنُ أَبِيهِ وَ اللَّهِ لَوْ وَقَفَ فِيكُمْ هَكَذَا يَوْماً جَدِيداً لَمَا انْقَطَعَ وَلمَا حُصِرَ فَكَلَّمُوهُ فَتَقَدَّمَ شِمْرٌ لَعَنَهُ اللَّهُ فَقَالَ يَا حُسَيْنُ مَا هَذَا الَّذِي تَقُولُ أَفْهِمْنَا حَتَّى نَفْهَمَ فَقَالَ أَقُولُ‏ اتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ‏ وَلَا تَقْتُلُونِي فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكُمْ قَتْلِي وَلَا انْتِهَاكُ حُرْمَتِي فَإِنِّي ابْنُ بِنْتِ نَبِيِّكُمْ وَجَدَّتِي خَدِيجَةُ زَوْجَةُ نَبِيِّكُمْ وَلَعَلَّهُ قَدْ بَلَغَكُمْ قَوْلُ نَبِيِّكُمْ الْحَسَنُ وَ الْحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ .(1)

كلام: زهير ابن القين

قال الأزدي: فحدثني علي بن حنظلة بن أسعد الشامي عن رجل من قومه‏ شهد مقتل الحسين (عليه السلام)(حين قتل )صلوات الله عليه( يقال له كثير بن عبد اللّه الشعبي قال : لما زحفنا قبل الحسين (عليه السلام) خرج إلينا زهير بن القين على فرس له ذنوب شاك في السلاح‏  فقال: يا أهل الكوفة نذار لكم من عذاب اللّه، نذار أن حقا على المسلم نصيحة أخيه المسلم، ونحن حتى الآن إخوة على دين واحد وملة واحدة ما لم يقع بيننا و بينكم

1-       البحار ج 45 ص 6

السيف وأنتم للنصيحة منا أهل فإذا  وقع السيف  انقطعت العصمة وكنا نحن  أمة وأنتم أمة ،  ان اللّه قد ابتلانا وإياكم بذرية نبيه محمد )صلى الله عليه و آله( لينظر ما نحن وأنتم عاملون، انا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية بن الطاغية عبيد اللّه بن زياد، فإنكم لا تدركون منهما إلا سوءا يسملان أعينكم ويقطعان أيديكم وأرجلكم ويمثلان بكم ويرفعانكم على جذوع النخل ويقتلان أماثلكم و قراءكم أمثال حجر بن عدي و أصحابه و هانئ بن عروة وأشباهه. قال: فسبوه وأثنوا على ابن زياد و قالوا: و اللّه لا نبرح حتى نقتل صاحبك و من معه أو نبعث به و بأصحابه إلى الأمير عبيد اللّه بن زياد سلما.

فقال لهم: يا عباد اللّه إن ولد فاطمة (عليها السلام) أحق بالود و النصر من ابن سمية، فإن لم تنصروهم فأعيذكم باللّه أن تقتلوهم، خلوا بين هذا الرجل و بين ابن عمه يزيد بن معاوية، فلعمري ان يزيد ليرضى عن طاعتكم بدون قتل الحسين)عليه السلام ( فرماه شمر بسهم وقال: اسكت اسكت اللّه نأمتك‏  أبرمتنا بكثرة كلامك. فقال له زهير رحمه الله: يا بن البوال على عقبيه ما إياك أخاطب إنما أنت بهيمة واللّه ما أظنك تحكم من كتاب اللّه آيتين فابشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم فقال له شمر: إن اللّه قاتلك وصاحبك عن ساعة. قال: أفبالموت تخوفني، فو اللّه للموت معه أحب إلي من الخلد معكم.

 قال: ثم أقبل على الناس رافعا صوته فقال: يا عباد اللّه لا يغرنكم من دينكم هذا الجلف الجافي و أشباهه، فو اللّه لا تنال شفاعة محمد (صلى الله عليه وآلهما )أهرقوا دماء ذريته وأهل بيته وقتلوا من نصرهم وذب عن حريمهم، قال:

 فناداه رجل فقال له: إن أبا عبد اللّه يقول لك أقبل فلعمري لئن كان مؤمن آل فرعون نصح لقومه و أبلغ في الدعاء لقد نصحت لهؤلاء و أبلغت لو نفع النصح و الإبلاغ‏ .(1)

كلام : برير بن خضير

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَ رَكِبَ أَصْحَابُ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ فَقُرِّبَ إِلَى الْحُسَيْنِ فَرَسُهُ فَاسْتَوَى عَلَيْهِ وَ تَقَدَّمَ نَحْوَ الْقَوْمِ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَ بَيْنَ يَدَيْهِ بُرَيْرُ بْنُ خُضَيْرٍ فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن )عليه السلام (كَلِّمِ الْقَوْمَ فَتَقَدَّمَ بُرَيْرٌ فَقَالَ يَا قَوْمِ اتَّقُوا اللَّهَ فَإِنَّ ثَقَلَ مُحَمَّدٍ قَدْ أَصْبَحَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ هَؤُلَاءِ ذُرِّيَّتــُهُ وَعِتْرَتُهُ وَ بَنَاتُهُ وَ حَرَمُهُ فَهــَاتُوا مَا عِنْدَكُمْ وَ مَــا الَّذِي تُرِيــدُونَ أَنْ

 1-  مقتل أبو مخنف ج1 ص 120 

تَصْنَعُوهُ بِهِمْ فَقَالُوا نُرِيدُ أَنْ نُمَكِّنَ مِنْهُمُ الْأَمِيرَ ابْنَ زِيَادٍ فَيَرَى رَأْيَهُ فِيهِمْ فَقَالَ لَهُمْ بُرَيْرٌ أَفَلَا تَقْبَلُونَ مِنْهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي جَاءُوا مِنْهُ وَيْلَكُمْ يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ أَ نَسِيتُمْ كُتُبَكُمْ وَعُهُودَكُمُ الَّتِي أَعْطَيْتُمُوهَا وَأَشْهَدْتُمُ اللَّهَ عَلَيْهَا يَا وَيْلَكُمْ أَ دَعَوْتُمْ أَهْلَ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ وَزَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ دُونَهُمْ حَتَّى إِذَا أَتَوْكُمْ أَسْلَمْتُمُوهُمْ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ وَحَلَّأْتُمُوهُمْ عَنْ مَاءِ الْفُرَاتِ بِئْسَ مَا خَلَّفْتُمْ نَبِيَّكُمْ فِي ذُرِّيَّتِهِ مَا لَكُمْ لَا سَقَاكُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَبِئْسَ الْقَوْمُ أَنْتُمْ.فَقَالَ لَهُ نَفَرٌ مِنْهُمْ يَا هَذَا مَا نَدْرِي مَا تَقُولُ فَقَالَ بُرَيْرٌ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي زَادَنِي فِيكُمْ بَصِيرَةً اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِنْ فِعَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ اللَّهُمَّ أَلْقِ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ حَتَّى يَلْقَوْكَ وَأَنْتَ عَلَيْهِمْ غَضْبَانُ فَجَعَلَ الْقَوْمُ يَرْمُونَهُ بِالسِّهَامِ فَرَجَعَ بُرَيْرٌ إِلَى وَرَائِهِ. (1)

كلام : الحر بن يزيد الرياحي

ثمّ استأذن الحسينَ (عليه السلام) في أنْ يكلّم القوم فأذن له ، فنادى بأعلى صوته : يا أهل الكوفة لاُمّكم الهبل والعبر ؛ إذ دعوتموه وأخذتم بكظمه وأحطتم به من كلّ جانب فمنعتموه التوجّه إلى بلاد الله العريضة حتّى يأمن وأهل بيته ، وأصبح كالأسير في أيديكم لا يملك

 1-       البحار ج 45  ص 5

لنفسه نفعاً ولا ضرّاً ، وحلأتموه ونساءه وصبيته وصحبه عن ماء الفرات الجاري الذي يشربه اليهود والنّصارى والمجوس ، وتمرغ فيه خنازير السواد وكلابه. وها هم قد صرعهم العطش ، بئسما خلفتم محمداً في ذريّته! لا سقاكم الله يوم الظمأ! فحملت عليه رجّالة ترميه بالنّبل ، فتقهقر حتّى وقف أمام الحسين عليه السلام . (1)

كلام : حنظلة بن أسعد الشبامي

قال: وجاء حنظلة بن أسعد الشبامي فقام بين يدي حُسَيْن، فأخذ ينادي: «يَا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ.

مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ» يا قوم تقتلوا حسينا فيسحتكم اللَّه بعذاب «وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى» [فقال له حسين: يا بن اسعد، رحمك اللَّه، إِنَّهُمْ قَدِ استوجبوا العذاب حين ردوا عَلَيْك مَا دعوتهم إِلَيْهِ من الحق، ونهضوا إليك ليستبيحوك وأَصْحَابك، فكيف بهم الآن وَقَدْ قتلوا إخوانك الصالحين! قَالَ: صدقت، جعلت فداك! أنت أفقه مني وأحق بِذَلِكَ، أفلا نروح إِلَى الآخرة

1- مقتل الحسين عليه السلام للسيد المقرم ج 1 ص 237   

ونلحق بإخواننا؟ فَقَالَ: رح إِلَى خير من الدُّنْيَا وما فِيهَا، وإلى ملك لا يبلى، فَقَالَ: السلام عَلَيْك أبا عَبْد اللَّهِ، صلى اللَّه عَلَيْك وعلى أهل بيتك، وعرف بيننا وبينك فِي جنته، فَقَالَ: آمين آمين، فاستقدم فقاتل حَتَّى قتل . (1)1-       تاريخ الطبري ج 5 ص 443

 

الفصل الثالث: الموقف الشرعي  

حرمة الغدر

عدم المبادرة بالقتال

لا يقاتل معي من عليه دين

أهمية الصلاة

  

حرمة الغدر

إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ۚ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا.

ان الآية المباركة واضحة الدلالة بان البيعة بالحقيقة هي لله تعالى وان النكوث والخيانة ان وقع من قبِل المبايع والمعاهد تكون تبعاته المخزية عليه قال تعالى (ٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ ميثاقه وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ به أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي ٱلْأَرْضِ  أُوْلَئِكَ هُمُ ٱلْخَسِرُونَ

ولذا تُعد مسالة نكث البيعة من اشد المحرمات في الشريعة الإسلامية لما لها من آثار جانبية كبيرة على المسلمين والحكومة الإسلامية من التغرير بالحاكم الإسلامي والغدر به وخاصة في ساعة العسرة وتضعيف قوته وزعزعة أمره.

وهذا ما حصل بالفعل من أهل الكوفة حينما أعطوا العهود والمواثيق للإمام الحسين عليه السلام ثم نكثوا البيعة وغدروا به وقد ناداهم (عليه السلام) في كربلاء: (يا شبث بن ربعي، ويا حجار بن أبجر، ويا قيس بن الأشعث، ويا زيد بن الحارث، ألم تكتبوا إليّ أن أقدم، قد أينعت الثمار، واخضرّ الجناب، وإنّما تقدم على جند لك مجنّدة؟ فقالوا: لم نفعل.

فقال (عليه السلام): (سبحان الله، بلى والله لقد فعلتم.

1-        سورة الفتح آية 10

2-           سورة البقرة آية 27

وقد صدحت بالحق عقيلة الهاشميين زينب بنت أمير المؤمنين )عليهما السلام (حيث اخذت تُقّرع  أهل الكوفة ( أَمَّا بَعْدُ يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ يَا أَهْلَ الْخَتْلِ‏  وَالْغَدْرِ  وَالْخَذْلِ  أَلَا فَلَا رَقَأَتِ الْعَبْرَةُ وَلَا هَدَأَتِ الزَّفْرَةُ إِنَّمَا مَثَلُكُمْ كَمَثَلِ الَّتِي‏ نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً  تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ. هَلْ فِيكُمْ إِلَّا الصَّلَفُ ...

بينما رجال النهضة الحسينية كانوا أصحاب قضية كبيرة، ذات قيم عُليا، وهو طلب الإصلاح في الامة، ونشر راية الهدى، ووأد الفساد، ومحاربة الفُسّاد.

وان قضيتهم قضية مقدسة لا تشوبها الانفعالات والعصبيات، فهم ليسوا من أصحاب القائلين (ان الغاية تبرر الوسيلة ) .

ومن هذا المنطلق الإسلامي الواعي سار مسلم بن عقيل رضوان الله عليه حينما أبى ان يغدر بعبيد الله بن زياد حينما سنحت له الفرصة في بيت هانئ بن عروة ولم يفتك بطاغية الكوفة لان (الإيمانُ قيَّدَ الفتكَ لا يفتِكُ مؤمن)   .  

ومن كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) [في معاوية]

وَاللهِ مَا مُعَاوِيَةُ بِأَدْهَى مِنِّي، وَلكِنَّهُ يَغْدِرُ وَيَفْجُرُ، وَلَوْلاَ كَرَاهِيَةُ الْغَدْرِ لَكُنْتُ مِنْ أَدْهَى النَّاسِ، وَلَكِنْ كُلُّ غَدْرَة فَجْرَةٌ، وَكُلُّ فَجْرَة كَفْرَةٌ، وَلِكُلِّ غَادِر لِوَاءٌ يُعْرَفُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

وَاللهِ مَا أَُسْتَغْفَلُ بالْمَكِيدَةِ، وَلاَ أُسْتَغْمَزُ بالشَّدِيدَةِ.(1)

 1-             نهج البلاغة

وان سيد الشهداء سلام الله عليه حينما وصلت إليه الكتب من ابن عمه مسلم بن عقيل يخبره بان القوم بايعوه على الطاعة والنصرة فانه سار مع الأحداث بالشكل الظاهري والطبيعي وكان صائنا وحافظا لتلك العهود والمواثيق لأنها كانت حجة عليه بحضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وإن كان يعلم بغدرهم له لاحقاً.

 

عدم المبادرة بالقتال

ومن مميزات النهضة الحسينية والتزاماتها الشرعية والدينية ان الامام الحسين عليه السلام لم يبادر بالقتال ضد اعدائه حتى يبادر هم بالبغي والقتال.

روى مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ قَالَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُنْدَبٍ عَنْ أَبِيهِ‌ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام  َانَ يَأْمُرُ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ لَقِينَا فِيهِ عَدُوَّنَا فَيَقُولُ لَا تُقَاتِلُوا الْقَوْمَ حَتَّى يبدؤوكم فَإِنَّكُمْ بِحَمْدِ اللَّهِ عَلَى حُجَّةٍ وَ تَرْكُكُمْ إِيَّاهُمْ حَتَّى يبدؤوكم حُجَّةٌ أُخْرَى لَكُمْ فَإِذَا هَزَمْتُمُوهُمْ فَلَا تَقْتُلُوا مُدْبِراً وَ لَا تُجِيزُوا عَلَى جَرِيحٍ وَ لَا تَكْشِفُوا عَوْرَةً وَ لَا تُمَثِّلُوا بِقَتِيلٍ.

ونقل الشيخ المفيد في الارشاد: في سياق مقتل أبي عبد الله (عليه السلام) ووصوله إلى 

نينوى وممانعة الحر قال: فقال له زهير بن القين: إني والله (لا أرى أن) يكون بعد الذي إلا أشد مما ترون  يا بن رسول الله ، إن قتال هؤلاء  القوم الساعة أهون من قتال من يأتينا من  بعدهم، ولعمري ليأتينا من بعدهم ما لا قبل لنا به، فقال الحسين (عليه السلام): (ما كنت لأبدأهم بالقتال).

ثم نزل، وساق الحديث إلى أن ذكر قصة يوم عاشوراء، قال: فنادى شمر بن ذي الجوشن لعنه الله بأعلى صوته: يا حسين أتعجلت بالنار قبل يوم القيامة؟ فقال الحسين (عليه السلام): (من هذا؟ كأنه شمر بن ذي الجوشن) فقالوا: نعم، فقال: (يا بن راعية المعزى، أنت أولى بها صليا) ورام مسلم بن عوسجة أن يرميه بسهم، فمنعه الحسين (عليه السلام) من ذلك، فقال له: دعني حتى أرميه، فإنه الفاسق من أعداء الله وعظماء الجبارين، وقد أمكن الله منه، فقال له الحسين (عليه السلام): (لا ترمه، فإني أكره أن أبدأهم بالقتال).(1)

لا يقاتل معي من عليه دين

ينقل في بعض كتب السّير ان في ليلة العاشر من المحرّم أمر الإمام الحسين مناديًا ينادي بين أصحابه: «لا يقتل معنا رجل وعليه دين»، فقام إليه رجل من أصحابه فقال له: «إن عَلَيَّ دينًا وقد ضمنته زوجتي»، فقال: «وما ضمان امرأة؟» (2)

1-          البحار ج 45 ص  5

2-          موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ص 505

باعتبار قلّة الحيلة للمرأة من الناحية المالية وخاصة في تلك الأزمنة التي كانت المرأة في الغالب لا تعمل بسبب الوضع الاجتماعي والعرفي.

 

أهمية الصلاة

لا شك أن الصلاة عمود الدين، وقربان كل تقي، وتعدّ هوية المسلم ومع ذلك فإن جوهرها الحقيقي هي إقامة حدودها وشروطها وأهدافها، وأن من اهم أهدافها وثمارها الاساسية ان تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر.

وحينما تستشري الفحشاء والمنكر في المجتمع الإسلامي فهذا مؤشر خطير يوحي بان الغالب من المسلمين لا يقومون حدودها المطلوبة !! ولم تؤثر الصلاة في سلوكياتهم وأخلاقهم على نحو المرجو، والدليل على ذلك هو ما حصل في واقعة الطف وفي ارض كربلاء حينما التقى الإمام الحسين عليه السلام واهل بيته واصحابه مع جيش عمر بن سعد ولا توجد مقارنة بين الفريقين من جهة العدة والعدد، فلم يتجاوز عدد أصحاب الحسين وأهل بيته المائة رجل على أكثر التقادير بينما جيش ابن سعد فاق ثلاثين ألفا ، وان كلا الفريقين قد صلىّ حينها ولكن شتان ما بين الصلاتين فأين صلاة سيد شباب أهل الجنة ومن معه وبين قاتليهم من العُتاة والمردة؟ وأية فاحشة أعظم من قتلهم ريحانة رسول الله واهل بيته واصحابه؟

فهؤلاء البُغاة لم تؤثر فيهم الصلاة قيد اُنملة إنما كانوا يعبدون أهواءهم وسلاطينهم وجاهليتهم الموروثة، بينما كان الإمام الحسين عليه السلام يحارب الفحشاء والمنكر ويسعى لإقامة العدل ونشر راية الإصلاح. 

فكانت الصلاة قُرة عين الإمام الحسين (عليه السلام) ففي ليلة عاشوراء طلب من أخيه ابي الفضل العباس عليه السلام ان يُؤخّر القوم حتى الصباح لعشقيه إياها  .

رُوي (ففي اليوم التاسع من المحرم قال الإمام الحُسَين (عليه السَّلَام) لأخيه أبي الفضل العبَّاس (عليه السَّلَام): (ارجِع إلَيهِم، فَإِنِ استَطَعتَ أن تُؤَخِّرَهُم إلى‏ غُدوَةٍ وتَدفَعَهُم عِندَ العَشِيَّةِ؛ لَعَلَّنا نُصَلّي لِرَبِّنَا اللَّيلَةَ، ونَدعوهُ ونَستَغفِرُهُ، فَهُوَ يَعلَمُ أنّي قَد كُنتُ احِبُّ الصَّلاةَ لَهُ، وتِلاوَةَ كِتابِهِ، وكَثرَةَ الدُّعاءِ وَالاستِغفارِ.(1)

وروي (حضر وقت صلاة الظهر فقال أبو ثمامة الصيداوي للحسين عليه السلام يا أبا عبد الله نفسي لنفسك الفداء هؤلاء اقتربوا منك ولا والله ولا تقتل حتى أقتل دونك وأحب أن القى الله ربي وقد صليت هذه الصلاة فرفع الحسين (عليه السلام) رأسه إلى

 

1-          بحار الأنوار ج 44 ص 392

 

السماء وقال ذكرت الصلاة جعلك الله من المصلين ، نعم هذا أول وقتها ثم قال : سلوهم أن يكفوا عنا حتى نصلي فقال لهم الحصين بن نمير : إنها لا تقبل فقال له حبيب بن مظاهر :لا تقبل الصلاة من ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتقبل منك يا ختار  .(!1-          نفس المصدر ج 44 ص 2

الفصل الرابع:

ادعية الامام الحسين عليه السلام 

خلال مسيرته الخالدة

 

الدعاء الأول:

وكان نزوله في كربلاء في الثاني من المحرّم سنة إحدى وستّين فجمع (عليه السلام) ولده وإخوته وأهل بيته ونظر إليهم وبكى وقال: «اللهمّ، إنّا عترة نبيّك محمّد قد اُخرِجنا وطُرِدنا واُزعِجنا عن حرم جدّنا، وتعدّت بنو اُميّة علينا، اللهمّ فخذ لنا بحقّنا وانصرنا على القوم الظالمين.  (1)

الدعاء الثاني:

فجمع الحسين عليه السلام أصحابه عند قرب المساء. قال علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام: " فدنوت منه لأسمع ما يقول لهم، وأنا إذ ذاك مريض، فسمعت أبي يقول لأصحابه: أثني على الله أحسن الثناء، وأحمده على السراء والضراء، اللهم إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة وعلمتنا القرآن وفقهتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعا وأبصارا وأفئدة، فاجعلنا من الشاكرين.(2)

1-        مقتل الامام الحسين السيد المقرم ج 1 ص 193

2-       الإرشاد الشيخ المفيد ج 2 ص  91

الدعاء الثالث: دعاؤه ( عليه السلام )على أعدائه

قال: ثم قال : «أما والله لا تلبثون بعدها إلا كريث ما يركب الفرس حتى يدور  بكم دور الرحى ويقلق بكم قلق المحور عهدٌ عهده إلي أبي عن جدي ، فأجمعوا أمركم وشركاءكم ، ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ، ثم اقضو إلي ولا تنظرون.

إني توكلت على الله ربي وربكم ، ما من دابة إلا هو آخذٌ بناصيتها ، إن ربي على صراط مستقيم.

اللهم احبس عنهم قطر السماء وابعث عليهم سنين كسنين يوسف ، وسلط عليهم غلام ثقيف يسومهم كأساً  مصبرةٌ ، فإنهم كذبونا وخذلونا ، وأنت ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير .  (1)

الدعاء الرابع:

ويُروي‌ عن‌ سيّد الساجدين‌ وزين‌ العابدين‌ عليه ‌السلام‌ أنّه‌ قال‌:لَمَّا صَبَّحَتِ الْخَيْلُ الْحُسَيْنَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، رَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: اللَهُمَّ أَنْتَ ثِقَتِي‌ فِي‌ كُلِّ كَرْبٍ؛ وَأَنْتَ رَجَائِي‌ فِي‌كُلِّ شِدَّةٍ؛ وَأَنْتَ لِي‌ فِي‌ كُلِّ أَمْرٍ نَزَلَ بِـي‌ ثِقَةٌ وَعُدَّةٌ.

1-       اللهوف على قتلى الطفوف ص 157

 

كَمْ مِنْ هَمٍّ يَضْعُفُ فِيهِ الْفُؤَادُ، وَتَقِلُّ فِيهِ الْحِيلَةُ، وَيَخْذُلُ فِيهِ الصَّدِيقُ، وَيَشْمَتُ فِيه الْعَدُوُّ؛ أَنْزَلْتُهُ بِكَ ، وَشَكَوْتُهُ إلَيْكَ ،رَغْبَةً مِنِّي‌ إلَيْكَ عَمَّنْ سِوَاكَ ؛ فَفَرَّجْتَهُ عَنِّي‌ ، وَكَشَفْتَهُ ، وَكَفَيْتَهُ .فَأَنْتَ وَلِي‌ُّ كُلِّ نِعْمَةٍ، وَصَاحِبُ كُلِّ حَسَنَةٍ، وَمُنْتَهَي‌ كُلِّ رَغْبَةٍ . (1)

الدعاء الخامس:

صبراً على قضائك يا ربّ، لا إله سواك يا غياث المستغيثين مالي ربّ سواك ولا معبود غيرك، صبراً على حكمك، يا غياث مَن لا غياث له يا دائماً لا نفاد له، يا محيي الموتى، يا قائماً على كلّ نفس بما كسبت، احكم بيني وبينهم وأنت خير الحاكمين .(2)

الدعاء السادس:

ولمّا اشتدّ به الحال رفع طرفه إلى السّماء وقال : « اللهم متعالي المكان عظيم الجبروت، شديد المحال غني عن الخلائق، عريض الكبرياء، قادر على ما تشاء، قريب الرحمة، صادق الوعد، سابق النعمة، حسن البلاء، قريب إذا دعيت، محيط بما خلقت، قابل التوبة لمن تاب إليك، قادر على ما أردت ، ومدرك ما طلبت ، وشكور إذا شكرت ، وذكور إذا ذكرت ، أدعوك  

1-     الارشاد ج 2 ص 96

2-     مقتل السيد المقرم ج 1 ص 283

محتاجا وأرغب إليك فقيرا، وأفزع إليك خائفا "، وأبكي إليك مكروبا، وأستعين بك ضعيفا وأتوك".

عليك كافيا احكم بيننا وبين قومنا بالحق، فإنهم غرونا وخدعونا وغدروا بنا وقتلونا ونحن عترة نبيك وولد حبيبك محمد بن عبد الله الذي اصطفيته بالرسالة، وائتمنته على وحيك، فاجعل لنا من أمرنا فرجا " ومخرجا " برحمتك يا أرحم الراحمين.(!)

 الدعاء السابع: دعاؤه ( عليه السلام ) على اعدائه

اللهمّ إنّك ترى ما أنا فيه من عبادك هؤلاء العصاة، اللهمّ أحصهم عدداً واقتلهم بدداً، ولا تذر على وجه الأرض منهم أحداً، ولا تغفر لهم أبداً». وصاح بصوت عال: «يا اُمّة السّوء، بئسما خلفتم محمّداً في عترته، أما إنّكم لا تقتلون رجلاً بعدي فتهابون قتله، بل يهون عليكم ذلك عند قتلكم إيّاي. وأيمَ الله، إنّي لأَرجو أنْ يكرمني الله بالشهادة، ثمّ ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون.

 1-          البحار ج  98 ص  348 

الدعاء الثامن: لما برز عليُّ الأكبر للقتال

قالوا ورفع الحسين سبابته نحو السماء وقال اللهم اشهد على هؤلاء القوم فقد برز إليهم غلام أشبه الناس خلقا وخلقا ومنطقا برسولك كنا إذا اشتقنا إلى نبيك نظرنا إلى وجهه اللهم امنعهم بركات الأرض وفرقهم تفريقا ومزقهم تمزيقا واجعلهم طرائق قددا ولا ترض الولاة عنهم أبدا فإنهم دعونا لينصرونا ثم عدوا علينا يقاتلوننا.

ثم صاح الحسين بعمر بن سعد ما لك قطع الله رحمك ولا بارك الله لك في أمرك وسلط عليك من يذبحك بعدي على فراشك كما قطعت رحمي ولم تحفظ قرابتي من رسول الله صلى الله عليه واله ثم رفع الحسين عليه السلام صوته وتلا ( إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ـ ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ .(1)

الدعاء العاشر: لما ذُُبح عبد الله الرضيع

 هوّن ما نزل بي أنّه بعين الله تعالى، اللهمّ لا يكون أهون عليك من فصيل، إلهي إنْ كنت حبستَ عنّا النّصر فاجعله لِما هو خير منه، وانتقم لنا من الظالمين واجعل ما حلّ بنا في العاجل ذخيرة لنا في الآجل .(2)

1- بحار الأنوار ج    45  ص 43

2-    كلمات الإمام الحسين ج 1 ص 477 

الدعاء الحادي عشر: دعاؤه ( عليه السلام ) لما استشهد جون رضوان الله عليه ) اللهمّ بيِّض وجهه وطيِّب ريحه، واحشره مع محمّد (صلى الله عليه واله) وعرِّف بينه وبين آل محمّد (صلى الله عليه واله.

الدعاء الثاني عشر: دعاؤه ( عليه السلام ) لما دنا وقت الصلاة

والتفت أبو ثمامة الصائدي ( قال : ) لك الفداء، إنّي أرى هؤلاء قد اقتربوا منك، لا والله لا تُقتل حتّى اُقتل دونك ، واُحبّ أنْ ألقى الله وقد صلّيت هذه الصلاة التي دنا وقتها

فرفع الحسين (عليه السلام) رأسه إلى السّماء وقال: «ذكرت الصلاة، جعلك الله من المصلّين الذاكرين .(1) 

والحمد لله رب العالمين

2021/09/27

19/1443صفر

1-     بحار الأنوار ج 45 ص 21


تعليقات

المتابعون

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حرز الامام الجواد عليه السلام هو نافع لدفع شر الجن والانس والحسد والشرور الكثيرة

  بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‏ لَا حَوْلَ وَ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ اللَّهُمَّ رَبَّ الْمَلَائِكَةِ وَ الرُّوحِ وَ النَّبِيِّينَ وَ الْمُرْسَلِينَ وَ قَاهِرَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرَضِينَ وَ خَالِقَ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ مَالِكَهُ كُفَّ عَنَّا بَأْسَ أَعْدَائِنَا وَ مَنْ أَرَادَ بِنَا سُوءاً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ وَ أَعْمِ أَبْصَارَهُمْ وَ قُلُوبَهُمْ وَ اجْعَلْ بَيْنَنَا وَ بَيْنَهُمْ حِجَاباً وَ حَرَساً وَ مَدْفَعاً إِنَّكَ رَبُّنَا لَا حَوْلَ وَ لَا قُوَّةَ لَنَا إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا وَ إِلَيْهِ أَنَبْنَا وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ- رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَ اغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏ رَبَّنَا عَافِنَا مِنْ كُلِّ سُوءٍ وَ مِنْ شَرِّ كُلِّ دَابَّةٍ أَنْتَ‏ آخِذٌ بِناصِيَتِها وَ مِنْ شَرِّ مَا يَسْكُنُ فِي اللَّيْلِ وَ النَّهَارِ وَ مِنْ شَرِّ كُلِّ سُوءٍ وَ مِنْ شَرِّ كُلِّ ذِي شَرٍّ رَبَّ الْعَالَمِينَ وَ إِلَهَ الْمُرْسَلِينَ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ أَجْمَ

احاديث اهل البيت في النفاق

نقلا عن كتاب ميزان الحكمة لريشهري   الإمام علي (عليه السلام) : النفاق يفسد الإيمان .  عنه (عليه السلام): النفاق أخو الشرك. - عنه (عليه السلام): النفاق توأم الكفر ). -  رسول الله (صلى الله عليه وآله) : إن النفاق يبدو لمظة سوداء، فكلما ازداد النفاق عظما ازداد ذلك السواد، فإذا استكمل النفاق اسود القلب . النفاق شين الأخلاق  -  الإمام علي (عليه السلام) : النفاق شين الأخلاق. - عنه (عليه السلام): ما أقبح بالإنسان ظاهرا موافقا، وباطنا منافقا! . - عنه (عليه السلام): ما أقبح بالإنسان أن يكون ذا وجهين! . - عنه (عليه السلام): الخيانة رأس النفاق . علة النفاق    الإمام علي (عليه السلام) : نفاق المرء من ذل يجده في نفسه . - عنه (عليه السلام): النفاق من أثافي الذل . - عنه (عليه السلام):  الكذب  يؤدي إلى النفاق . صفة  المنافق   -  الإمام علي (عليه السلام) :  المنافق  لنفسه مداهن، وعلى الناس طاعن . - عنه (عليه السلام):  المنافق  قوله جميل، وفعله الداء الدخيل . - عنه (عليه السلام):  المنافق  لسانه يسر، وقلبه يضر . - عنه (عليه السلام):  المنافق  وقح غبي، متملق شقي . - عنه (عليه السلام):  المنافق  مكور مضر

دُعاء القدحِ عظيمُ الشأنِ مكتوب

  دُعَاءُ الْقَدَحِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بِسْمِ اللَّهِ وَ بِاللَّهِ وَ بِاسْمِهِ الْمُبْتَدَإِ رَبِّ الْآخِرَةِ وَ الْأُولَى لَا غَايَةَ لَهُ وَ لَا مُنْتَهَى رَبِّ الْأَرْضِ وَ السَّمَاوَاتِ الْعُلَى الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوىٰ. لَهُ مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي الْأَرْضِ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا وَ مٰا تَحْتَ الثَّرىٰ. وَ إِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَ أَخْفىٰ اللَّهُ عَظِيمُ الْآلَاءِ دَائِمُ النَّعْمَاءِ قَاهِرُ الْأَعْدَاءِ [رَحِيمٌ بِخَلْقِهِ] عَاطِفٌ بِرِزْقِهِ مَعْرُوفٌ بِلُطْفِهِ عَادِلٌ فِي حُكْمِهِ عَالِمٌ فِي مُلْكِهِ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ رَحِيمُ الرُّحَمَاءِ- عَالِمُ الْعُلَمَاءِ صَاحِبُ الْأَنْبِيَاءِ غَفُورُ الْغُفَرَاءِ قَادِرٌ عَلَى مَا يَشَاءُ سُبْحَانَ اللَّهِ الْمَلِكِ الْوَاحِدِ الْحَمِيدِ ذِي الْعَرْشِ الْمَجِيدِ الْفَعَّالِ لِمَا يُرِيدُ رَبِّ الْأَرْبَابِ وَ مُسَبِّبِ الْأَسْبَابِ وَ سَابِقِ الْأَسْبَاقِ وَ رَازِقِ الْأَرْزَاقِ وَ خَالِقِ الْأَخْلَاقِ قَادِرٍ عَلَى مَا يَشَاءُ مُقَدِّرِ الْمَقْدُورِ وَ قَاهِرِ

بحث حول النفاق

النفاق : هو ان يظهر الانسان شيئا حسنا من عمل او فعل او قول بخلاف ما يضمره في باطنه فالمنافق له حالتان حالة ظاهرية توافقية مع الناس وحالة باطنية تغاير ظاهريته ، وقد اشار امير المؤمنين عليه السلام الى هذا المعنى بقوله( ما أقبح بالإنسان ظاهرا موافقا و باطنا منافقا 1 . وهذه الازدواجية في التعامل ناشئة من دواعي كثيرة في نفس المنافق سيأتي الحديث عنها لاحقا ان شاء الله تعالى . والنفاق تارة يكون في العقيدة كأن يظهر المنافق الإيمان بأصول الدين كالتوحيد والمعاد والنبوة ويظهر التزامه بفروع الدين كالصلاة والصوم ولكنه باطنه يخادع الله ورسوله والناس وما يخادع إلا نفسه قال تعالى ( إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ) 2 وقوله تعالى ( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ( 142 ) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا

بحث حول ( اهمية التوبة )

إن التوبة كالماء الذي ينزل من السماء على الارض الميتة فيكسوها الحياة بعد الممات وكذا القلب التائب بعد أن هيّأ ارضية قلبه -من خلال الندم والتوبة والاستغفار - بأن تكون خصبة صالحة للتطهير والتزكية ما ان تنهمر على قلبه سحائب الرحمة ومفاتيح الرأفة فتحي القلب بالحياة بعد الممات والنور بعد الظلمات واليقظة بعد الغفلة والسبات.  فالقرآن الكريم يِعدّ الغارق في مستنقع الذنوب والكنود انه ميت الأحياء وأنه في ظلمات ليس بخارج منها إلا بالأوبة والنزوع عن الحوبة قال تعالى ( أ َوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ . 1 فالتوبة هي رجوع العبد إلى دوحة الرحمة والعفو والغفران مما فرّط في حق ربه من الذنوب والعصيان ، وأن فتح باب التوبة أمام عباده العاصين وقبولها لهي من أعظم النعم والمنح النازلة من فيض رحمته الواسعة على عباده التائبين روي عن الإمام علي (عليه السلام): من تاب تاب الله عليه وأمرت جوارحه أن تستر عليه، وبقاع الأرض أن تكتم عليه، وأنسيت الحفظة ما كانت تكتب عليه 2 . وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) وقد سمعه معاوية بن وهب يقول : إذا تاب الع

بحث حول لقمة الحرام وتاثيرها على قلب المؤمن

لا شك ان هناك علائق وروابط بين الامور المادية والمعنوية بحيث نلاحظ تأثير أحدهما على الآخر فانشراح القلب وانبساطه عامل دفع ومحرك نحو العمل وضيق الصدر وقسوته وظلمته عامل مثّبط للعمل  . وكذلك الكلام في مسالة لقُمة الحرام وتاثيرها الفاعل في تلويث القلب وما لها من الآثار الوضعية على القلب بحيث يعمى القلب عن رؤية الحق واستماع للحق واتباع الحق ومثقلة للعبادات وسالبة للتوفيق   ومن الإشارات إلى هذه النكتة كلام الإمام الحسين عليه السلام مع جيش ابن سعد قبل أن يلتقي المعسكران قال سلام الله عليه ((... وَيْلَكُمْ ما عَلَيْكُمْ اَنْ تَنْصِتُوا اِلَيّ فَتَسْمَعُوا قَوْلي وَاِنَّما اَدْعُوكُم الى سَبيلِ الرَّشادِ فَمَنْ اَطاعَنِي كانَ مِنَ الْمُرْشَدِينَ وَمَنْ عَصانِي كانَ مِنَ الْمُهْلَكِينَ وَكُلُّكُمْ عاصٍ لأمري غَيْرُ مُسْتَمِعٍ لِقَوْلي قَدِ انْخَزَلَتْ عَطِيّاتُكُمْ مِنَ الْحَرامِ وَمُلِئَتْ  بُطُونُكُمْ مِنَ الْحَرام فَطَبعَ اللّهُ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيْلَكُمْ اَلا تَنْصِتُونَ اَلا تَسْمَعُونَ؟... تَبّاً لَكُمْ اَيَّتها الْجَماعَةُ وَتَرَحاً .  1 ولقد ضرب القرآن الكريم نموذجا عن المرابي الذي