من العوامل الضرورية والمهمة في المسيرة التكاملي للإنسان المؤمن وقوسه الصعودي والعروجي الى عالم الروح والمعنى هو الترنم بكتاب الله وربيع القلب ونسيمه الفواح فهو المجلي لصدأ القلب ورينه القابع على انفاس القلب بسبب الغفلة والانشغال بالحياة الدنيا .
فعن رسول الله (صلى الله عليه
واله ): ان القلوب لتصدا كما يصدا الحديد قيل : يا
رسول الله فما جلاؤها ؟ قال: قراءة القرآن وذكر الموت، اقرؤا القرآن أو ابكوا فإن
لم تبكوا فتباكوا .1
ان للقران الكريم اهلا قد ذابوا في جماله
وعذوبته وعرفوا ان ربهم قد تجلى في كتابه فهم يأنسون بكلامه ويتلذذون بجميل خطابه.
يصف امير المؤمنين عليه السلام اهل التقوى
بقوله : اما اَللَّيْلَ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ
تَالِينَ لِأَجْزَاءِ ؟ اَلْقُرْآنِ ؟ يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلاً يُحَزِّنُونَ
أَنْفُسَهُمْ وَيَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ فَإِذَا مَرُّوا
بِآيَةٍ فِيهَا تَشْوِيقٌ رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعاً وَتَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ
إِلَيْهَا شَوْقاً وَظَنُّوا أَنَّهَا نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ وَاذَا مَرُّوا بِآيَةٍ
فِيهَا تَخْوِيفٌ أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ وَظَنُّوا أَنَّ
زَفِيرَ جَهَنَّمَ وَشَهِيقَهَا فِي أُصُولِ آذَانِهِمْ ) 2
فقد خسر من حرم نفسه من التذوق من حلاوة
معينه، ولطيف نسيمه، ومغبون من زهد في معارفه وتعاليمه وأخلاقه وآدابه الى
غيره ، واستخّف بمكانته وعظمته من طلبه لأجل الترزق والمعيشة ، او لاستدرار وجوه
الناس اليه ، او لنيل المنزلة والحظوة عند الملوك والأمراء ومن لف لفيفهم من اهل
الدنيا .
فالدرة الثمينة والنفيسة تارة تقع بيد من
يعرف قدرها وثمنها ويعلم انها تدر عليه الغنى والسعة.. وأخرى تقع بيد الطفل او
المجنون اللذان لا يميزان بين الدرة والحصة لا هم لهما سوى الاستمتاع واللعب
بهما .
فالقران الكريم درة لا كالدرر فهو درة من
عالم الغيب والملكوت لا تعوض بالأثمان ولا يخفق بريقها تقادمُ الايام ، من جعله
أمامه هداه الى الحق والصراط القويم، وأخرجه من ظلمات الفتن وأعانه على تكالب اهل
الدنيا ومحنها ، وجلّاه من قسوة القلوب وشفاه من امراض الصدور قال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ
رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ) 3ومن
جعله خلفه خسر الدنيا والاخرة الا ذلك هو الخسران المبين .
ومن هنا تعلم اخي في الله : منازل
وأقدار الناس حسب تعاطيهم مع كتاب ربهم ( كل يعمل
على شاكلته 4) فهناك من يتعاطى مع القران بالتبرك لا غير وآخر
بالاستخارة وغيره للثواب وآخر لجلب الرزق .. وغيرها من الاغراض والمساعي والنوايا
الكثيرة لسنا بصدد احصاء المصاديق ولكن المساعي الضرورية التي ينبغي على
المؤمن الكيس ان يسعى لها من خلال وقوفه على كتاب الله العزيز هي ازالة غبار
الغفلة عن القلب وإجلاء الصدأ عن حريمه لان القلوب بسبب طبيعة الحياة وعالم الكثرة
تضيف الرين على صفحات القلب مما تسبب الفتور والإعراض عن الله تعالى والآخرة.
فتلاوة القران الكريم تعيد صقل القلب وتخرجه
من عالم الماديات الصرفة الى عالم الروحيات وتزوده بالطاقة المعنوية التي تدفع
العبد نحو العمل الصالح والاستعداد للموت والحذر من دقة الحساب ، وتفيض ايضا
التلاوة القرآنية الواعية المتدبرة المتفاعلة مع روح القارئ المعرفة والايمان وهما
بدورهما عادة يمنعان المؤمن في ركوب المعاصي وإتباع الشيطان والوقوع في الضلالات .
قال تعالى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا
ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُه زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون .) 4
وقال سبحانه: (إن
الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون)5
ان من المؤلم حقيقة ان يعزف المسلم عن تلاوة
القران ويبقى القران متروكا مهملا وكأنه تحفة كباقي التحف التي تُعّلق في رفوف
المنزل لزينة والجمالية لا غير ، وتمر الاشهر والسنون وهو لم يقرأ حرفا منه فأية
ظلامة هذه بحق القران الكريم ؟ مع العلم ان من
يهجر القران الكريم وسواء كان الهجر من جهة
تلاوته او جهة تعلمه او العمل به انما يظلم نفسه ! كالطبيب الذي يصف الدواء
للمريض ويضعه بين يديه وثم يرشده وينصحه بضرورة تناوله ولكن المريض يهمل ويهجر
العلاج والدواء غير عابئ بالنتائج الخطيرة فلا اشكال انه في هذا التصرف انما يعرض
نفسه الى الهلاك .اذاً فالفرد حينما يقبل على كتابه ربه انما يدر على
نفسه الخير والبركة في الدارين والإعراض عنه هو اعراض عن الرحمة والبركة وناهيك عن
العواقب والأضرار الناتجة من الهجران ؟ .والإقبال على كتاب الله تعالى ليس هو
تفضلا ومنًّاً من العبد اتجاه ربه فقد يشعر الفرد الذي يقبل على كتاب الله انه
ممتن ومتفضل لأنه غير هاجر للقران الكريم فيدخله الاعجاب والتدلل على الله تعالى
وهذا الحال هو ضرب من الجهل وسوء المعرفة ، فالخير راجع للعبد فالله تعالى غني عن
عبادة العالمين .
واقع المسلمين اليوم مع القران:
ومن الواضح ان القران الكريم هو عهد الله عند خلقه وتوقيره امر لازم
على كل مسلم والتوقير والتعظيم لا شك لا يقتصر في حفظه وتجويده ومعرفة قراءاته كما
نراه واضحا في كثير من الدول الاسلامية حيث اهتمت اهتماما كبيرا في انشاء المدارس
والمعاهد لحفظ القران وتجويده وتعّلم قراءاته وعلومه من الناسخ والمنسوخ والمطلق
المقيد وغير ذلك من الامور التي لا ترتقي الى المستوى المطلوب بمكانة القران
الكريم ودوره الرائد في الامة الاسلامية في حفظ عزتها وكرامتها ودينها . فان
رسول الله صلى الله عليه واله حينما اوصى بتعلم القران وتعليمه كقوله (صلى
الله عليه وآله): خيركم من تعلم القرآن
وعلمه)6 ولكنه لم يكتف بذلك التوجيه والتأكيد فقد ورد عنه
(صلى الله عليه وآله) - لما سئل عن العلم -: الإنصات،
قال: ثم مه ؟ قال: الاستماع له، قال: ثم مه ؟ قال: الحفظ له، قال: ثم مه ؟ قال:
العمل به، قال: ثم مه ؟ قال: ثم نشره.7
فالعلم له سلم ترتيبي لا مناص من الوصول الى نهايته وهو العمل به
ونشره .
ومن المؤلم انك ترى الدستور الالهي الذي يتعهد بحفظ كرامة المسلمين
وعزتهم وهيبتهم في حال العمل به معزولا مقصياً عن شؤون الامة، وتجد الأحكام
الوضعية المستوردة من دول الغرب وثقافتهم هي المعولمة والطاغية في كثير من الدول
الاسلامية كالمعاملات الربوبية في البنوك وإباحة بيع الخمور في الاسواق والمطارات
وانتشار الملاهي وكذا السماح للنظريات الفكرية المادية الماركسية ونظائرها ان
تُدّرس في بعض مناهج الجامعات والكليات التي لا يؤمن شرها على الطلبة لقلة اطلاعهم
على نظريات الفكر الاسلامي وناهيك على وجود بعض الاحكام الوضعية في المحاكم
الاسلامية ، ومن الفواجع الاليمة التي تخالف روح القران وتعاليمه وأحكامه هي
مداهنة عداء الاسلام وإعانتهم وتوليتهم والاستنجاد بهم على شعوبهم ..الخ ان
القران الكريم دستور الهي ينظم شؤون الناس في معايشهم وعلاقاتهم وسلوكهم فيما
بينهم ،ويربطهم بربهم واخرتهم فعزله في زاوية ضيقة عن حياة المسلمين لهو الظلم
بعينه في حق القران الكريم ، فان رسول الله صلى الله عليه واله لمّا اوصى الامة
بالتمسك بحبل القران وعترته انما لأجل حفظها من الوقوع في التيه والضلال .والمراد
بالتمسك هو التبعية والانصياع في احكامه وتعاليمه ولكي تكون حركة المسلم في جميع
شؤون حياته حركة قرآنية ، وليس المراد بالتمسك بحبله بجعله في المكتبات ورفوف
المنازل والتبرك به المحافل والمناسبات المختلفة .أفلا يُعد هذا ظلما وهجرانا
لكتاب الله العزيز ؟ وتعديا على حرمته ومكانته ؟ وتعريض الامة نفسها لشكوى الرسول
يوم القيامة ؟ قال تعالى (وَقَالَ الرَّسُولُ
يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا)8وعن
أبي عبد الله عليه السلام قال : ثلاثة يشكون
إلى الله عز وجل : مسجد خراب لا يصلي فيه أهله ، وعالم بين جهال ، ومصحف معلق قد وقع عليه غبار ولا يقرأ فيه 9.وعن
أبي جعفر عليه السلام أنه قال : يا سعد تعلموا
القرآن فإن القرآن يأتي يوم القيامة في أحسن صورة نظرَ إليه الخلق ، والناس
صفوف ... ، ثم يجاوز حتى ينتهي إلى رب العزة تبارك وتعالى فيخر تحت العرش ،
فيناديه تبارك وتعالى : يا حجتي في الارض وكلامي الصادق الناطق ارفع رأسك ، وسل
تعط ، واشفع تشفع ، فيرفع رأسه فيقول الله تبارك وتعالى : كيف رأيت عبادي فيقول :
يا رب منهم من صانني وحافظ علي ولم يضيع شيئا ، ومنهم من ضيعني و استخف بحقي
وكذّب وأنا حجتك على جميع خلقك ، فيقول الله تبارك وتعالى : وعزتي وجلالي وارتفاع
مكاني لاثيبنّ عليك اليوم أحسن الثواب ،ولاعاقبنّ عليك اليوم أليم العقاب .1.الخ10
ومن المفارقات العجيبة التي
نراها في المجتمع الاسلامي هو خروج تظاهرات عديدة في كثير من الدول تنديدا لما
يتعرض له القران الكريم او شخص الرسول صلى الله عليه واله من اساءة من قبل بعض
الجهلة والحاقدين على الاسلام والمسلمين ،وخروجهم هذا نابع من غيرتهم على كتاب
ربهم وتمسكا بهويتهم وحبهم لنبيهم ( صلوات الله عليه ) وأجرهم على ربهم.ولكن أليس
من المفروض ايضا ان يخرج المسلمون تظاهرات على انفسهم تنديدا بالتقصير الحاصل
اتجاه كتاب ربهم !( والإنسان على نفسه
بصيرة 11 ) إلا ان يقول المسلمون
وحكامّهم اننا غير مقصرين اتجاه القران ! والواقع خلاف ما يدعون والكلام ذو
شجون واللبيب تكفيه الاشارة .
1- ميزان الحكمة ج8 ص200
2- نهج البلاغة خطبة المتقين
3- سورة يونس اية 57
4- الاسراء اية 84
5- سورة الانفال اية 2
6-سورة الاعراف اية 201
7- عوالئ اللالئ ج1ص 9
8-مشكاة الانوار1ص 102
9- سورة الفرقان اية 30
10- الخصال ص 148
11- وسائل الشيعة ج6 ص161
تعليقات